بورتريه

محمد الغاوي : الصدحة المغربية

سعيد نافع الخميس 31 مارس 2016
محمد الغاوي : الصدحة المغربية
lrhawi (2)

AHDATH.INFO  خاص بقلم سعيد نافع

أهل علينا في مطلع الثمانينيات بصوت رخيم صادح . ومنذ ذلك الزمن احتل موقعه في المخيال الفني الجماعي للمغاربة كما تمكن من حجز مكانه بين كبار الأصوات المغربية التاريخية. الأسمر ذو القسمات المغربية والشعر الأجعد الكثيف ارتباطا بتقليعات شعر تلك الفترة، دخل بيوت المغاربة وقلوبهم وأوقف الزمن في ومضة تألق ‘‘ الغربة والعشق الكادي ‘‘. الصادح فينا وفي وجداننا منذ ذات صيف مطلع ثمانينيات القرن الماضي، مازال يصدح في دواخلنا بنفس القوة والشجن.

لا يمكن لتلك الأغنية الرائعة المغربية اللحن والكلمة أن تنسى، كما لا يمكن أن ننسى صاحبها ‘‘ سي محمد الغاوي ‘‘. عبق جميل لصدى لحن أجمل يتردد دون ملل لأجيال معاقبة، و روح طيبة تسري فينا جميعا كل ما نبست شفتاه بالمطلع المغربي القح والشهير ‘‘ كي ندير نقاوم هادي ... كي ندير نصارع هاديك ... لعتين والعمر غادي ... حيرتين وكاتمهم فيك واش ندير ‘‘.

الغاوي المكرم اليوم بالإذاعة الوطنية احتفاء بمسيرة فنية مجيدة وخالدة، لم يكن يتوقع نجاحا أزليا لأغنيته الخالدة الغربة و‘‘العشق الكادي‘‘، ذات القصة الفريدة. ففي مطلع ثمانينات القرن الماضي كان سي محمد محافظا في بلاتوه البرنامج الشهير ‘‘ مواهب ‘‘ لصاحبه ذو القامو الفنية الكبيرة الراحل عبد النبي الجيراري، لكنه ظل محتفظا بالأمل في قرارة نفسه بأن يغني يوما ما، لما كان يختزنه في دواخله من رغبة كبيرة في التألق والشهرة. بين الفينة والأخرى كان سي محمد يصدح بدندنات جميلة لا يكاد يسمعها أحد. استجمع كل ما لديه من شجاعة ذات يوم وكشف عن هذه الرغبة للجيراري، الذي طلب منه انتظار الوقت المناسب. ولأن الأقدار الجميلة كانت تنسج منوالها للغاوي دون أن يدري، فقد كان الملحن محمد بلخياط وقتها يدندن في عوده أولى ألحان ‘‘ الغربة والعشق الكادي ‘‘ التي كانت موجهة أصلا لصوت الكبير عبد الهادي بلخياط . وفعلا، عرض محمد على عبد الهادي لحن الأغنية لكن الأخير أبدى رفضا أوليا لأدائها، معتبرا أنها ليست في نفس القيمة الفنية للقطع الرائعة التي يحفل بها ‘‘ ريبرتواره ‘‘ التليد. استغرق محمد بلخياط في حيرته باحثا عن صوت يليق بقوة الأغنية وكلماتها الرائعة الخارجة من خيال الكبير الآخر الزجال علي الحداني. هنا يدخل الراحل عبد البني الجيراري على الخط، ويقترح على الملحن اسما شابا لا يعرفه الكثيرون، بالرغم من مروره الخاطف في برنامج ‘‘ أضواء المدينة ‘‘ سنة 1983، البرنامج الذي اختص في تقديم المواهب الشابة بالقناة الأولى المغربية. لم يبد محمد بلخياط كثير حماس للاسم الشاب لكنه قبل أن يسمع اللحن بصوته بعد إلحاح من الجيراري، وسرعان ما فهم محمد بلخياط، بعد ثوان فقط من إطلاق الغاوي لعنان صوته بالأغنية أنه وقع أخيرا على الصوت المناسب . بقية القصة يعرفها القاصي والداني، فقد تحولت ‘‘ الغربة والعشق الكادي ‘‘ إلى ايقونة فنية ارتبطت بمحمد الغاوي الشاب المغمور آنذاك.

تحكي الأسطورة أن عبد الهادي بلخياط استمع للحن داخل سيارته على أمواج الإذاعة الوطنية في مكان ما من الطريق السيار بين الدارالبيضاء والرباط . توقف عن السياق وركن جانبا إلى أن انتهت الأغنية، وبمجرد وصوله للرباط اتصل عبد الهادي بالملحن محمد بلخياط والزجال الراحل علي الحداني محتجا على سحب الأغنية منه وإعطائها لسي محمد الغاوي، متذرعا بأنه كان الأحق بتأديتها وأنها كانت موجهة إليه أصلا . غير أن احتجاج الحنجرة الذهبية لن يكون ذا تأثير على اللاحق من أحداث، فمن كان قد كان، حيث ولدت أسطورة الأغنية مرتبطة بصوت مؤديها .

‘‘ الغربة والعشق الكادي ‘‘ كانت عنوان نجاح اسم محمد الغاوي، ولكنها كانت أيضا لعنته. القيمة الفنية العالية للأغنية حجبت أي تألق آخر لما قدمه الصوت المغربي الجميل من أغاني فيما بعد، على الرغم من ألحانها الجميلة وكلماتها الرقيقة. الجمهور المغربي ظل وفيا للتألق الأول للغاوي لدرجة أن المقارنة صارت مقياسا ينسحب على باقي القطع التي يحفل بها سجله الفني، ولأن المقارنات غالبا ما تكون ظالمة، فقد ظلت أغنيته الأولى متفردة في قلوب المغاربة عن غيرها، تطلب منه في السهرات التلفزيونية والإذاعية طيلة السنوات التي تلت خروجها الأول. وإلى اليوم مازال يقترن اسم محمد الغاوي بالغربة حتى بعد مرور أزيد من ثلاثين سنة على أدائها.

ابن سلا وعاشقها الأبدي، ابتدأ حياته المهنية بعد مشوار دراسي متألق أنهاه في نهاية السبعينيات كمحافظ في ستوديو برنامج ‘‘ مواهب ‘‘ المتخصص في اكتشاف المواهب الشابة، ثم مدرسا للتعليم الأولي فالإعدادي، قبل أن يطل على المغاربة من نافذة برنامج آخر كان مخصصا للمطربين الشباب ‘‘ أضواء المدينة ‘‘ إلى جانب شباب آخرين سيطبعون تاريخ الغناء المغربي كالراحلة ‘‘ رجاء بلمليح ‘‘ و ‘‘ ليلى الزهراوي ‘‘ . وقبل أن يتألق مع ‘‘ الغربة والعشق الكادي ‘‘ كان الغاوي مصرا على النجاح في الغناء بالرغم من الظروف الصعبة. الغاوي لا يخجل من معاناته قبل التألق ويسترجعها في حضرة مقربيه كلما لاحت الفرصة كدليل على الصبر والمثابرة. من بين هذه الذكريات تلك المرتبطة بإخفائه للبذلة الوحيدة والحذاء الوحيد الذين كان يملكهما داخل حقيبة صغيرة قبل أن يقطع نهر سبو الفاصل بين الرباط وسلا، ثم ارتدائهما بعد الوصول للعاصمة، ليظهر دائما في أبهى حلة في بلاتوه برنامج عبد النبي الجيراري. محمد الغاوي متشرب بالفن من أصوله وسليل عائلة فنية بامتياز، ولا أدل على ذلك لمعان اسم شقيقه عبد العالي في المجال الفني وبصمه على مكانة متميزة في الساحة الغنائية الوطنية لأزيد من عقدين كاملين .

تكريم الغاوي اليوم هو تكريم لاسم وشخصية فنية من زمن جميل، لا نملك سوى النوستالجيا لاستعادته. وهو تكريم أيضا لقيمة الفن المغربي الحقيقي الذي كان قادرا على الإتيان بالجمال من أطرافه لحنا وكلمة وأداءا. في صوت سي محمد، كلما صدح، يستعيد المغاربة زمنا مشرقا ومشرفا، يدوم مادام العرفان والتذكر قائما .