آراء وأعمدة

وطنيون ليسوا كالوطنيين

عصام كرامة الجمعة 22 أبريل 2016
وطنيون ليسوا كالوطنيين
sisi

AHDATH.INFO  خاص بقلم ​سعيد الشطبي

على كنال الفرنسية، لا أفلت إلا مضطرا برنامج "لوبوتي جورنال". أجد فيه جرأة صحفية وعملا إعلاميا كبيرين. تشعر بأن في كواليسه خلايا نحلية تجدَّ وتتعب وتبتكر من أجل تقديم إعداد فقراته وتقديمها في قالب جميل، رائق. وفي كل حلقة من حلقاته، أجدني في المقارنة. أقارن بين حال تلفزيوني هنا وحال تلفزيوني هناك... بين تقاليد هنا وأخرى هناك. بين جرأة هناك ومجاملات لا تنتهي هنا... بين "شكرا على الاستضافة" و "المهم هو المشاركة" و "شكرا للزميل فلان العلاني" و "شكرا على هذا البرنامج" وبين العمل الإعلامي الخالي من الحشو التلفزيوني الموروث عن عهود تلفزيون أضعف الأيمان...

وأنا أتابع حلقة الإثنين الماضي من هذا البرنامج، استغربت مرة أخرى لحالنا المطبوع بالمشترك بيننا في هذا المسمى وطنا عربيا. فرانسوا هولاند في القاهرة عند عبد الفتاح السيسي. طاقم كنال نقل بعضا من زمن ما قبل وصول الرئيس الفرنسي. فشاهدنا كيف يحرص المصريون- مثلنا- على أن تبدو الأشياء جميلة برغم قبحها الطبيعي... كيف نجتهد لتغيير عاداتنا من القبح إلى الجمال في آخر لحظة... كيف نشذب اليساط الأحمر بالمقص ونرش المبيد في الهواء... وهنا نُنبت النخل ليلا والأوركيديا ونقتلعهما بعد حين... كيف نطلي بالألوان الزاهية أرصفتنا ونهملها حتى أجل آخر... أوجه شبه مشتركة حتى في الغيرة المفضوحة على الوطن والحريات. كيف؟

شاهدنا – في لوبوتي جورنال طبعا- جانبا من الندوة الصحافية التي أعقبت لقاء رئيسي البلدين. صحافي (من قناة "بي إف إ م تي في" الإخبارية) منتدب عن فريق الصحافيين الفرنسيين يطلب الميكروفون ويطرح سؤالا عن حقوق الإنسان بمصر السيسي على خلفية ما قيل ويروج عن الاعتقالات التعسفية والحبس والتعذيب وجثة الفرنسي والإيطالي اللتين عثرا عليهما في مكان مهجور في بلد الفراعنة. من حسن حظ المشير أن السؤال وجه إلى هولاند، الذي لم يتلعثم ولم يختف وراء الميكروفون، بل واجه الصحافي بجواب عام عكس فيه موقف فرنسا من حقوق الإنسان عموما وتفادى الحرج بأن دفع في اتجاه التأكيد على أن مناقشة القضايا البينية لا يعني بالضرورة مباركة الواقع الحقوقي في مصر... وتستمر حكاية المشهد المحرج في البرنامج إياه لتستحيل بؤسا إعلاميا... من زاويته، طلب صحافي مصري الكلمة ليرد الصاع صاعين إلى الصحافي الفرنسي والفرنسيين الذين جاؤوا مصر ذات زمن ببعثتهم الأركيولوجية والعسكرية والسياسية وراء بونابارت... تكلم الصحافي. وليته لم يتكلم. تكلم مدافعا عن مصر وحقوق إنسان مصر كما هي اليوم، دافعا عن المحروسة التهمة أمام الرئيسيْن، منتقدا ما ألمح إليه بتدخل الغرب في شؤون مصر... لم تنته الحكاية هنا. بعد اللقاء، سعى الصحافي الفرنسي إلى لقاء الصحافي المصري وسؤاله عن مبعث تدخله ذاك. كان جواب الأخير جملا مرتبة من الكلام العام والكثير من النسبية والأمل في أن تسير الأمة المصرية إلى الأمام وأن تبلغ مبلغ الحريات كما هي في البلاد الغربية، معيدا التلميح إلى التحامل الغربي على مصر وحالها والحريات فيها والإنسان... بدا لي أن ليس بين الإنسان العربي كثير اختلاف. بل هي بنية واحدة تقريبا تكاد تكون مشتركة إلى حد بعيد بين أقطارنا.

تعجبت من هذا المشترك المعيب، المتعدد بيننا ... بين جغرافيا الخليج والمحيط والجغرافيا الإسلامية المتفرقة بين آسيا وإفريقيا. هنا- كما هناك- نرضى بكل شيء ونبرر حالنا بهذا الموروث الثقافي الأعوج الذي تراكمت فيه مأثورات الصبر (مفتاح الفرج)، والمكتوب والمصير والقدر... ونظل مشتركين في ذلك التعبير المجاني الفضفاض عن قيم ليست فينا، وعن ديمقراطية ليست لدينا، وعن خصوصية مصطنعة... وعن إجماع تمليه الأنانية والمصلحة أكثر من الموضوعية واستقلالية الموقف... بينما الآخرون حولنا يطوون المسافات تلو الأخرى على دروب التعلم والتربية والعلم والاستعداد لمستقبل تبدو تحدياته كبرى تحتاج إلى جهد أكبر.

قال الصحافي المصري للفرنسي ما يعني أنهم – هم أيضا- في مصر ينتقدون أمورا عديدة في البلد ولهم الحرية في قول كثير الأشياء. صحيح. لكننا جميعا في بلداننا نقول كثير الأشياء. لكننا نقف عند حدود القول منذ زمان بعيد لا يبدو له منتهى للأسف. لماذا؟ لأننا نبقي على طول الزمان هذا وأبديته من خلال نسبيتنا الملتصقة بتكويننا... تلك التي ترجئ الفعل إلى موعد مؤجل دائما وأبدا... ولأننا نشترك كلنا في ذلك الميل شبه الطبيعي فينا إلى أن نظهر بمظهر القبول الدائم والمباركة التلقائية لكل الأمور حتى نعطي الانطباع بأننا وطنيين، وبأننا نحب الخير لأوطاننا. ومن هذا الميل، مثلا، أن لا نرى في تقرير الأمين العام للأمم المتحدة إلا أنه تأسف عن كلمة "احتلال" في موضوع الصحراء، لا بل إن البعض رأى في التقرير "اعتذارا للمغرب" عن تلك الكلمة. وذهب بعض ثالث إلى القفز عن مضامين تضمر بعضا مما قد يطيل في أمد القضية والاهتمام بأخرى لا يفيد ذكرها في شيء لأنها مجرد مضامين سطحية لا قيمة لها. من هذه الأمثلة الكثير. منها الإجماع السياسي الحزبي في عديد محطات يحتاج فيها المواطن لا إلى الموقف الواحد المتشابه بل إلى الموقف المختلف المتعدد. منها الصمت المطبق حين الحاجة إلى الكلام... حين الحاجة إلى تنوير الرأي العام... حين توضيح الالتباس.

عندما يطرح الفرنسيون وغيرهم من الغرب أسئلة محرجة علينا، فلأنهم يعرفون نقط ضعفنا ونقط مقتلنا. خلافا لنا، تجدهم متحررين من هكذا حرج لأنهم لا يصطنعون وطنية مزيفة يدفع صاحبها التهم عنه من باب الدفاع ليس إلا، بل إن وطنيتهم تستند إلى حقوق المواطنة كاملة وإلى مؤسسات الدولة ونزاهتها وإلى ديمقراطية قائمة برغم ما قد يعتريها من علات. ولقد تتبعنا كيف صحت فرنسا في لحظة واحدة عندما صدّقت جبهة آل لوبان أنها ستكتسح الطيف الانتخابي التمهيدي الفرنسي وكيف انتفض المثقفون والسياسيون في وجه بعض الإجراءات التعسفية بُعيد أحداث باريس الإرهابية وكيف انسحبت وزيرة من حكومة ذهبت في اتجاه اعتماد قرار لا دستوري يقضي بسحب الجنسية من مواطنين فرنسيين.