ثقافة وفن

وثيقة - في أربعينية الكبير بوستة: يوم حاور التهاني الزعيم

أسامة خيي الاحد 02 أبريل 2017
-3
-3

 

AHDATH.INFO- مراكش - خاص

 في حوار البوح الجميل مع الأستاذ محمد بوستة.. إنْسَاناً ومُثَقفاً وسيَاسياً

أشياء وذكريات ومواقف وأحداث... وما كل حديث في السياسة..

 

 

أنجز الحوار :

عبد الإله التهاني

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

  أول الكلام:

 

محمد بوستة..اسم كبير، وإنسان متواضع، ونبتة في أرض معطاء. لم ينشأ من فراغ ولا في الفراغ. شخصيته البارزة، لم تصنعها الصدفة أو الوصولية السياسية المتهافتة، بل هي خلاصة تاريخ وبيئة ومجد قديم. فالرجل سليل بيت أصيل في مراكش.

وسيفتح محمد بوستة عينيه على هذه البيئة، التي تدفعه تلقائيا إلى التعلق بالعلم، وحب الناس، والانخراط في خلايا الحركة الوطنية.

ألحت علي كثيرا فكرة هذا الحوار، إذ كنت مهتما بالحديث إليه في أمور وقضايا ومواقف، تخرج به ولو قليلا عن ضغط الاهتمامات السياسية، وجو اللقاءات الصحفية التي تستحضر فيه الرجل السياسي، أكثر مما تقرب من جانب الإنسان.

أما أنا، وإن كنت لا أقلل من أهمية التصريحات السياسية التي يدلي بها القياديون أو الزعماء، إلا أن الذي بات يهمني هو الإقتراب من محمد بوستة الإنسان، أو بوستة المثقف الذي تغيبه الاستجوابات المذكورة، في زحمة الانشغال بالمواقف السياسية وقضايا الساعة.

قال لي صبيحة ذلك اليوم الممطر، "أفضل أن يكون الحوار عفويا، دون سابق تحضير أو اتفاق على نقاط". ثم أضاف مازحا: "هل تعرف جيدا أزقة المدينة القديمة؟".

كنت على مشارف حومة "قاعة بناهيض"، التي تلتقي مع الأسواق والتجمعات الحرفية القائمة في "الطالعة"، وبيت السي امحمد يبدو مواجها لحمام السوق. على خطوات من الدار الكبيرة، ينتصب جامع ابن يوسف العظيم، الذي تخرج منه العلماء والأدباء والوطنيون.

الباب مفتوحة. نجتاز الرواق الذي يغطيه سقف مرتفع، يقوم على أعمدة عالية، وندخل إلى القبة الفسيحة. الأثاث والديكور مغربيان خالصان من الأرض إلى السقف، والأستاذ يقوم من جلسته، ويتقدم لاستقبالنا بتواضع كبير وبشاشة ظاهرة. يطلب إحضار الصينية وملحقاتها، ويدعو لمراكش أن تنعم بغيث غزير، يحول اليابس إلى خضرة، وتسترعي انتباهي ثلاثة كتب كان يطالعها الأستاذ، أو بالأحرى كان يعيد قراءتها، وهي لثلاثة من الرجال المهمين: الحسن اليوسي، عبد الحق فاضل، أمين معلوف. ننهي حديثنا الودي الذي لا تلتقطه آلة التسجيل، وبالتالي لا يدخل حروف المطبعة، ونبدأ حديثنا الصحفي الذي يطالعه القارئ بعد الفراغ من هذه السطور.

في غمرة هذا الحوار، لم يظهر على الأستاذ محمد بوستة أي تلكؤ أو تملص، أو شعور بالحرج. حين يتحدث عن الماضي، يسبح في أجوائه يتذكر الوجوه والأسماء والأمكنة.  وحين يتحدث عن الشباب، تتوهج عيناه، وتشعر أن دفء الحياة يغمره بقوة.

أما حين يستحضر المرحوم علال، فإنك تحس بالوفاء والحنين يرتسمان على محياه.

وبعد،،

فهل أنا فعلا أقدم امحمد بوستة، الشخصية السياسية البارزة. المحامي  النقيب، العضو في منظمات وطنية وعربية ودولية، وزير العدل والوظيفة العمومية والشؤون الخارجية؟؟ وهل يحتاج شخص من مستواه إلى تقديم؟؟

رجل اجتاز عقود الزمن، اخترق ما حملته من أعاصير وعواصف، ونعم بما ساقته من لحظات الاطمئنان والراحة. وكما عاش تجربة المعارضة، عرف تجربة المشاركة في الحكم، والمساهمة في القرار والمسؤولية، معتقدا أن الحياة هي معركة متواصلة في أكثر من موقع، وعلى أكثر من واجهة.

 

وإذ يتقدم في السن، ما زال السي امحمد يقرأ كثيرا، ويعتني بنفسه، ويحرص على أناقته. والذين يعرفونه عن قرب، يجمعون على أن الرجل شعبي للغاية، اجتماعي بطبعه، يزور الأهل، ويسأل عن الأصدقاء. يعود المرضى منهم، ويشارك المحتفلين منهم فرحتهم. أصيل يحافظ على العادات، ويندمج في الطقوس الاجتماعية، ويبتهج لإطلالة العيد، ولا أزيد شيئا. هذه جلستنا، وما كل حديث في السياسة.

 عبدالاله التهاني

--------------------------------

 

 

                           

 


 

 

الفرح الذي لا أنساه، يوم قرار عودة محمد الخامس

 

علال الفاسي شخصية فذة، وكان يتقبل الملاحظة بصدر رحب

 

 

- سيدي الأستاذ ، يغرينا التعرف على بدايات العمر ، وبالتحديد على امحمد بوستة الطفل 

ج : قضيت فترة الطفولة بمدينة مراكش، هنا داخل هذا البيت الذي نحن فيه الآن . ولادتي كانت عام 1923 ، وهذا سر أذكره لأول مرة ، إذ أن بطاقتي الرسمية تؤرخ لميلادي بسنة 1925 . وقد اضطررت إلى  مغادرة مراكش في وقت مبكّر، بمجرد ما اتممت الدراسة الابتدائية . وأذكر إنني كنت هنا مع فئة من الأطفال المراكشيين، نذهب إلى " المسيد" الذي نعرفه في مراكش باسم " الحضار" ، ونذهب أيضا إلى الحلقات الدراسية ، وبعض أنشطة الخلايا الوطنية .كما كانت لنا ميول رياضية ، وبصفة خاصة نحو لعبة كرة القدم .

من الذكريات التي استحضرها عن طفولتي أو بداية شبابي ، أن وراء جدران هذا البيت ، وبالضبط في المكان المسمى " سوق الشعرية" ، حضرت أول مهرجان خطابي انتهى بمظاهرة . كان ذلك سنة 1937، وبالضبط في شهر شتنبر ،حيث انعقد تجمع كبير ترأسه الأخ عبد القادر حسن العاصمي ، ومنه انتقلنا  لنتظاهر بساحة "جامع الفناء" ، فواجهنا المخازنية وحاشية الباشا الكلاوي، وفي مقدمتهم " البياز"، وتناولونا بالعصي ، وتلك كانت هي المظاهرة العظيمة القوية التي شهدتها مدينة مراكش عام 1937 ، إذ على إثرها انتهى إخوان عديدون في المنفى . أما أنا فكان من حظي أن جِلْبابي تمزق ، فاضطررت إلى الالتجاء لدى طبيبة إيطالية اسمها " كوابيزا" كان لها اتصال بالبيت وببعض أفراد العائلة . وقد تركتني في محلها ، إلى أن تيسر لي أن أعود إلى بيتنا. هذه بعض الذكريات وغيرها كثير.

س: سيدي امحمد ، هذه الصورة المختصرة عن امحمد بوستة الطفل ، لا تصرفنا عن محاولة التعرف على الوسط العائلي الذي شب فيه . حبذا لو ندخل الآن إلى البيئة الأسروية للطفل بوستة ؟

ج : عائلة بوستة ، عائلة مغربية قديمة ، كان أفرادها يتعاطون للدراسة والعلم، مثل حالة الوالد رحمه الله، أو للفلاحة كمورد للرزق ، أو لبعض الأعمال الحرفية . ولكن الملاحظ أن جلهم كان له جانب مشترك ، هو التشبت بالدين .وكما يقول أديب صديق لي يعرف الأسرة وتاريخها ، فإنه "على كثرة أفراد أسرة بوستة ، كنت لا تجد فيهم تاجرا، وإنما فلاحا أو حرفيا أو عالما". أعرف عددا من أعمام والدي رحمهم الله ، كانوا أما مفسرين للقرآن أو " لكتاب الشفا " للقاضي عياض ، وذلك في الجوامع المحيطة ببيتنا ، إما في مسجد " قاعة بناهيض"، أو "بمسجد الصحراوي"، أو في جامع بن يوسف ، وهو الأقرب إلينا .وكانوا دائما على هذه الحال ، سواء في رمضان أو في غير رمضان.

وكما قلت لكم خارج هذا الحوار ، كان جدي مولعا بقراءة " دليل الخيرات" للشيخ سليمان الجزولي ، إلى درجة أنه حبس أحد جنانه ليقرأ الدليل في المدينة المنورة ، بعد صلاة العصر من كل يوم . ومازال  الأمر مستمرا إلى الآن ، منذ ما يزيد عن مئة وعشرين سنة.

 

 

 

 

 

قرأت شعر والدي في الإذاعة 

س : عرف والدكم باهتماماته الأدبية والعلمية . هل نقف معكم لحظة عند التراث الذي خلفه؟

ج : والدي ، وأنتم تعلمون ذلك قبل أن أذكره لكم ، كان معروفا بميوله ومواهبه  الشعرية ، إلى درجة أن بعض الأصدقاء الذين كان يتناول معهم هذا الجانب ، سموه "شاعر الجنوب" ، وقد ترك ديوانا متفرقا، أتمنى أن يتم إعداده ليقوم شقيقي الحاج عمر بطبعه.، وآمل أن يتيسر ذلك قريبا .

ورغم أن ميول الوالد للشعر ظلت كبيرة ، إلا أنه كانت له صلات بمثقفي الوقت الذي عاش فيه رحمه الله. كما كان له اهتمام بالعلوم المتداولة في عصره . ولكن المهم كذلك، أنه لم يكن يخلو من روح صوفية. وللأسف الشديد لم يتيسر لي التعرف كثيرا على الوالد ، حيث إننا غادرنا إلى فاس ونحن في سن مبكرة، بعد ذلك رحلت مع أخي عمر لإتمام دراستنا بباريس . وبعد عودتنا من فرنسا ، لم نبق معه باستمرار إلا لبعض السنوات ، حيث كان هو يقطن بمراكش ، في حين كنّا نحن في الرباط ، نظرا للواجبات الملقاة على عاتقنا منذ ذلك الوقت . ولغاية الأسف أنه توفي ، قبل أن نتعرف عليه كما نريد، وبالحجم الذي نريد، أي أن نتعرف عليه كشاعر وكأديب، ولم لا أيضا كإنسان ، رغم أننا عشنا معه في البيت ، قبل أن تختطفنا منه دراستنا ثم مسؤولياتنا بعد ذلك.

س : مع ذلك يقول شقيقكم الأستاذ عمر بوستة ، أنه كان يقرأ بعض قصائد الوالد في الإذاعة نيابة عنه .

ج : هذا صحيح ، وأنا أيضا قرأت البعض منها في مناسبات معينة ، وخاصة في عيد العرش ، وكنا نتهافت على قراءة " العرشيات " ، سواء كانت للوالد أو لغيره ، لأن الاحتفال بعيد العرش كان من مظاهر التعبير عن سيادة الأمة ، بل أنه بات وقتئذ تحديا للاستعمار.  وكانت المشاركة في هذه المناسبة تتسم بالشجاعة ، ونحن كنّا دائما نرجو أن نكون في طليعة المحتفلين بعيد العرش . وكان الوالد بمناسبة كل عيد، ينظم قصيدة أقرأها أنا أحيانا، أو أخي الحاج عمر غالبا ، من منبر الإذاعة في ذلك الوقت .

س: يشوقنا سيدي الأستاذ أن نبقى في فترة شبابكم . فهل كانت لكم هوايات فنية أو ميول إبداعية ؟ 

ج : الحقيقة أنني لفترة طويلة كنت أحاول الشعر ، ولكنني لم أستمر في ذلك . فقد كانت الهواية الكبيرة ، التي شغلت بعضا من وقتي هي الرياضة ، بحيث كنت أساهم في عدة فرق لكرة القدم ، بدءا من فرقة الحومة ، ثم بعد ذلك تعاطيت لكرة السلة .

أما القراءات فكانت بصفة منتظمة ، منذ أن دخلت إلى الخلايا الحزبية . كما أنها كانت متعددة ومتنوعة ، وإن تركزت بالأساس حول تاريخ المغرب بصفة خاصة ، وتاريخ العرب والإسلام عامة ، وهذا ما نميته أثناء الدراسة العليا التي كتب لي أن أتلقاها.

 

كان لبيرغسون تأثير في اطلاعي على بعض جوانب الفلسفة، وق وقارنته بالمحاسبي في علم النفس

س: دراستكم العليا قانونية ، ولكنني أعلم أنه كانت لكم اهتمامات بالفلسفة . فمن هم الفلاسفة الذين كانت لكم معهم  وقفات فكرية خاصة ؟ 

ج : أنا درست الفلسفة في " السوربون " بباريس ، وكان الفيلسوف " برغسون" هو الذي أخذ من اهتمامي ، وأعتبر أنه فيما يتعلق بعلم النفس ،كان لبرغسون تأثير في تكويني وإطلاعي، على بعض جوانب الفلسفة . ولما تيسر لي أن أطلع على نظريات وآراء بعض الفلاسفة المسلمين ، تمت لي مقارنات بين " برغسون "  و " المحاسبي "، و بصفة خاصة في علم النفس ، فكان لذلك بعض التأثير ، فيما أظن ، على ما تعلمته في هذا اللون من المعرفة.

س : أنتم الآن شخصية قيادية بارزة ، لها حضور ومكانة وتأثير. والزعماء والقادة تصنعهم الحياة والأحداث والتجربة والمعارك ، ولكن تصنعهم القراءات والأفكار أيضا ، فمن هم المفكرون الذين يعتقد الأستاذ أنهم صنعوا وعيه ،أو أثروا فيه بقوة ؟ 

ج : ذكرت لكم "برغسون" فيما يتعلق بالفلسفة ، ولكنني لا أقول بأنه هو أو غيره أثروا في، بشكل مباشر أو بدرجة قوية . ولا أقول أيضا  بأن واحدا من الفلاسفة أثر في شخصيتي بحجم كبير . قراءاتي كانت مركزة على التاريخ ، أو بالأحرى على فلسفة التاريخ ، ولكنني تأثرت على وجه الخصوص بما كتبه المرحوم علال الفاسي عن تاريخ المغرب ، سواء كتحليل أو كتأريخ . ومن ذلك  تمت لي بعض المقارنات مع بقية المؤرخين ، كابن خلدون، أو بعض المشرقيين الذين كتبوا في هذا الباب . وما عدا هذا، لا يمكن أن أقول بان كاتبا أو مفكرا، أو مؤرخا، استحوذ على وعيي .

س : سيدي الأستاذ ، عالم الغناء دنيا جميلة فيها الأصوات والأنغام والمقامات . فما هي الأصوات والأغاني التي كان يهواها الشاب محمد بوستة ؟

ج : في طفولتنا ، وكذا في شبابنا ، كانت الأغاني الذائعة هي أغاني محمد عبد الوهاب وبعده أم كلثوم ، خصوصا في قصائدها التي كتبها أحمد شوقي . بالنسبة للخصوصية المغربية، كان أثر الملحون بصفة أدق ، وخاصة بعض القطع التي استمعت إليها، وأنا طفل صغير وإن لم أكن أفهمها آنذاك ، بالشكل الذي فهمته بها لاحقا ، إلا أنها أثرت في .

س : حديثكم هذا عن الملحون ، ذكرني بإسم لاسم أحد كبار شعراء هذا اللون الأدبي الشعبي . إنه عباس بوستة الذي خلف شعرا رفيعا ، وقيل إنه كان شاعرا مجيدا ومكثرا. إذن فن الملحون جزء من تراث العائلة 

ج : عباس بوستة هو إبن عم والدي ، وهو كما ذكرتم واحد من شعراء الملحون ، وبخاصة في الجانب الوطني ، والجانب الإلهي والنبوي . وكان الشاعر عباس بوستة رحمه الله ، يعيش في مراكش، ويفرغ ما يحس به من مشاعر في قالب فني وأدبي ، من خلال نظم قصائد الملحون التي عرفت جانبا منها ، وسمعته يلقي بعضها الآخر . ورغم حداثة سني آنذاك ، فإنني تأثرت بها تأثرا كبيرا ، وكان هذا الرجل من العوامل التي جعلتني أتأثر بقصائد الملحون ، سواء كانت لشاعرنا بوستة أو لغيره، حيث قادني هذا التأثر إلى محبة الملحون والاهتمام به .ولغاية الأسف فإنني لم أتمكن من الوقت الكافي ، الذي كنت أرغب في توفيره للتعمق في تذوق هذا الفن ، ولكن بصفة مجملة ، أقول بأن للشاعر عباس بوستة ابن عم والدي، الدور الرئيسي في تحبيب فن الملحون إلى نفسي .

س : لا داعي للأسف سيدي، لأن الأستاذ محمد الفاسي ينوب عن الجميع، في الاهتمام بالملحون، والغوص في أعماق بحره .

ج : صدقتم ، فقد قرأت للسيد الاستاذ محمد الفاسي كتابه الرائد " معلمة الملحون " ، واستمعت إلى بعض المحاضرات التي ألقاها ، واطلعت على بعض البحوث التي قام بها ونشرت له ، وخصوصا تلك تكلم فيها عن شعراء الملحون بمدينة سلا ، فهذه من المحاضرات التي نشرت له، والتي كان لها أثر في نفسي.

س : هل يمكن أن نعرف من تطربون لهم من رجال الملحون المعاصرين ؟

ج : كنت عرفت في مراكش أحد الأشياخ هو المرحوم بن حسن ، والآن يعجبني من السادة الذين يصلنا الملحون بأصواتهم ، المنشد التولالي من مكناس، والمرحومين التهامي الهاروشي ومحمد بوزبع الأب من فاس.

س : ومن يستهويكم من شعراء الملحون ؟

ج : التهامي المدغري بالدرجة الأولى 

س : وخارج الملحون ، من يعجبكم من أصوات الغناء المغربي العصري ؟

ج : من الرجال يعجبني صوت ، عبد الهادي بلخياط ، ومن السيدات عزيزة جلال ، وأجد في صوتها شيئا من الرقة والحنان ، وبمقارنتها مع أصوات أخرى ، تظل عزيزة جلال صوتا مغربيا قويا . ولا أخفي أنني أحب كثيرا الموسيقى الأندلسية ، سواء كانت بعزف جوق السيد عبد الكريم الرايس، أو جوق السيد مولاي أحمد البوكيلي، أو جوق السيد مولاي عبد الله الوزاني 

 

-----------------------------------------------------------

 

خمس ساعات لإقناع حافظ  الأسد

  هناك ذكريات أخرى، أحتفظ  بها عن الفترة التي كنا نهيئ فيها للمرحلة الثانية من مؤتمر فاس، وخصوصا مقابلتي للرئيس الأسد، بصفتي موفدا من جلالة الملك لإقناعه بضرورة  حضوره لقمة فاس، وضرورة  تسجيل النقاط التي ينبغي أن تسجل في جدول الأعمال. وقد دامت مقابلتي مع الرئيس حافظ الأسد خمس ساعات.

ويمكنني أن أقول لكم الآن أنه من بين الشخصيات البارزة في العالم العربي، المحللة بدقة لكل الأوضاع، يوجد الرئيس حافظ الأسد. يمكن أن نختلف معه في الرأي ، أو في بعض ما يقوم به خلال حالات معينة، ولكن دقته في معرفة الأمور والأوضاع ، شيء مثير في الحقيقة.

هذه إذن بعض الذكريات، تضاف إليها ما كانت تجتازه قضية الصحراء، وما أتاح لي ذلك من التعرف على الإخوة الأفارقة والعرب، المسؤولين عن دبلوماسية بلدانهم، والعمل معهم لتوطيد علاقاتنا المشتركة، وإقناعهم بأحقية موقفنا في قضيتنا الوطنية . هذا وغيره يثير ذكريات طويلة لا يسع الوقت للحديث عنها.

 

 

مدن وجزر في الذاكرة

س : هذه ذكريات تتعلق بالأحداث، فماذا عن الجغرافيا ؟ أقصد البلدان والمعالم التي بقيت خالدة في خيالكم.

ج: هناك بلدان كثيرة في آسيا، باكستان، إسلام أباد بصفة خاصة لأن الجو الإسلامي فيها بارز بشكل قوي. هناك "لاهور" كذلك. أما في البلاد الإفريقية ، فهناك مدينة صغيرة في السينغال تسمى «كولخ»، إستوقفني فيها جوها الإسلامي، طبعا من البلاد الأخرى التي يسر المرء بزيارتها ، توجد بعض الجزر، كجزر «هواي» ، التي لم أزرها في مهمة سياسية، بل في عطلة رفقة العائلة.

شبابنا يجب أن يعيش عصره لكن دون متاهات

س: سيدي الأستاذ، من المهم جدا أن نستمع إلى تعليقكم بخصوص قضية حساسة بل وخطيرة. فالملاحظ أن بعض شبابنا تنتابهم صرعات ناتجة عن الغزو الغربي، فينساقون وراء موضات ، وتقليعات تافهة وأحيانا منسلخة عن القيم . فما هي كلمتكم التنويرية لهذا النموذج من الشباب الذي يكاد يضيع، إن لم يكن قد ضاع، خاصة وأن موقعكم السياسي، ومركزكم الاجتماعي، وثقلكم الفكري، كلها اعتبارات قد تعطي لكلمتكم معنى وقيمة؟

ج: كلمتي التنويرية في هذا الشأن، ألخصها في أن هذا الجيل، لابد أن يعيش عصره، والتطور الذي وقع، وهو تطور يفرض ألا يبقى شباب المغرب منعزلا، منكمشا على نفسه. هذا أمر مسلم به دونما شك. ولكن لا ينبغي أن يعبر بشبابنا إلى المتاهات، وإلى التفكك الأخلاقي ، ينبغي لشبابنا، عندما يعيش عصره، نظرا لكثرة وسائل الاتصالات والإعلام، ونظرا للتطور الحاصل في العلوم والتيارات والأفكار والنظريات، أن يتمسك بثوابت أساسية، أخلاقية بالدرجة الأولى، سواء في مظهره ولباسه، أو في تفكيره وسلوكه. كما عليه أن يحذر من بعض التيارات التي تجرفه، ولن تؤدي به إلى الخير. فلابد من فرز الطيب من الخبيث، في مضمار الموضات والتقليعات الجديدة. ولي اليقين أن الشبان، برجوعهم إلى الأخلاق الإسلامية السمحة سيجدون كل المعطيات التي تشفي الغليل، فيما يتعلق بحياتهم وعصرهم، وأيضا فيما يتصل بالوسائل المادية، التي تمكنهم من الحفاظ على ماهو ضروري الحفاظ عليه.

 

هكذا تفككت المدرسة والأسرة :

س: كيف تتصورون دور الإعلام في هذه القضية؟

ج: لغاية الأسف نلاحظ أن الأسرة تفككت، لأسباب متعددة. والمدرسة صارت عاجزة، بسبب الكثرة والاكتظاظ ، وبقية الظروف والملابسات المحيطة بها. كذلك غياب الخلايا الوطنية، التي كان لها دور التوجيه والإصلاح. أيضا الإعلام دوره أساسي هنا، لكنه لا يقوم به. ونحن لا نقول فقط أنه مقصر، بل إنه يساهم في بعض الأحيان، بطريقة أو بأخرى، في عملية الانحراف، ويفتح للناس الأبواب في متاهات لا ينبغي أن تكون. ولذلك يجب على الإعلام أن يعي المسؤولية التي عليه في تكوين الأجيال الصاعدة. وهي مسؤولية من الخطورة بما كان، إذ لا أظن أنه يوجد شبان في البادية والحاضرة، لا يشملهم تأثير الإذاعة، وتأثير التلفزة بصفة خاصة. ولا أشك أنهم سيكونون، كما سيتكونون عبر هذه القنوات.

 

 

 

 

هذا سر الاطمئنان النفسي لدي ولست نادمًا ولا قلقًا على شيئ

س: إذا سمحتم، لدي ثلاثة أسئلة لشخصكم في صياغة مباشرة بعض الشيء، ماهو القرار أو الموقف الذي اتخذه الأستاذ محمد بوستة في حياته، ثم ندم عليه فيما بعد؟

ج: حاولت أن أتذكر شيئا قمت به وندمت عليه لاحقا، فلم أجد شيئا. وهذا يعني، أن ما تسألون عنه لم يحدث إطلاقا.

س: أقرب صديق لكم بعد رفاقكم في النشاط السياسي؟

ج: صديقي الأديب مولاي الصديق العلوي في مراكش.

س: شيء كنتم تشعرون به دائما ، ولم تعبروا عنه سابقا، ونريد أن نعرفه الآن، ويكون بمثابة البوح الذي يسجل لأول مرة في هذا الحوار.

ج: هو حالة غريبة من الاطمئنان، ظلت دائما تسكنني، حتى في لحظات الحرج أو الشدة. بمعنى أن العمل الذي أقوم به يخلف في نفسي شعورا رائعا بالاطمئنان، ويجعلني أنظر إلى الأحداث والمواقف التي أنخرط فيها برؤية ونظرة الإنسان الواثق، المطمئن، وليس الإنسان القلق المرتبك، وهذا يوفر للمرء الإحساس ، بأنه يسير فعلا في الطريق التي كان يجب أن يسلكها في الحياة، وأنه يقوم بعمل صالح ومفيد.

 

حين قادني محمد عزيز الحبابي نحو التمثيل المسرحي

س: سيدي الأستاذ، تربطكم صلات شخصية وفكرية ببعض أعلامنا البارزين. ونحب أن نسمع منكم كلمة عن ثلاثة أسماء مهمة.

- عبد الله كنون؟؟

ج: عالم كبير، وأستاذ الجيل من دون شك. له الفضل في إبراز جوانب مهمة، كانت مجهولة قبله في تاريخ الثقافة بالمغرب، وبصفة خاصة في تاريخ الأدب المغربي. وهذا ما يجعله من الرواد السابقين إلى إزالة الغطاء عن ماضينا وتاريخنا. له أسلوب رقيق، وفضلا عن كل هذا يقوم بعمله التربوي والتاريخي، بروح المناضل الملتزم، المغربي الحقيقي، السلفي المتطلع الذي يحب أن يظهر وجه المغرب مضيئا.

س: محمد عزيز الحبابي؟

ج: هو صديق الدراسة. كان أول من قادني إلى التمثيل المسرحي بكوليج "مولاي إدريس" في فاس، وأوقفني على الخشبة. ثم مثلت بعد ذلك في باريس أيام الدراسة. وطبعا في فاس حين كنت طالبا فيها. كما كنا نترافق أيام اللقاء بإيمانويل مونييه، صاحب مجلة «إسبري». وأنا أعتبر أن الأستاذ الحبابي ، من الشخصيات المغربية التي برزت في ميدان الفلسفة. وهو يعتمد على جوانب في الفلسفة الشعبية المغربية. لذلك أنا معجب بعمله ودوره التربوي في المجتمع المغربي ، من موقع الفلسفة.

س: عبد الكريم غلاب؟

ج: أعتبر أخي الأستاذ عبد الكريم غلاب، اسما مهما في الجماعة التي تضم أيضا المرحومين عبد المجيد بن جلون وعبد الكريم بن ثابت ، فبعد عودة هذا الجيل من القاهرة، كان عمل الأسماء الثلاثة مهما، بالنسبة لتعميق القيم الوطنية، وتأصيل الثقافة المغربية، ورفع راية المغرب بين الأمم في مضمار الكلمة.

ولكن الأخ عبد الكريم غلاب أكثرهم إنتاجا، وبخاصة عطاؤه في الناحية الأدبية، وفي تعميق الوعي ببعض قضايا المجتمع المغربي. كذلك اكتسبت كتاباته عن تاريخ الحركة الوطنية قيمة ومكانة. ونتمنى أن يتابعها ، لأن هذا الجانب له أهمية في التعريف بحقبة تاريخنا.

هذا إضافة إلى معاشرتي اليومية له على صفحات «العلم» سواء تعلق الأمر بالافتتاحيات، أو بنقطته اليومية، أو ما كان من دراسته ومذكراته.

 

الدقة المراكشية ذات أصول صوفية وهكذا افتقدنا تراثنا

س: سيدي الأستاذ، أنتم من مواليد مراكش، كما قضيتم فترة من حياتكم الدراسية بفاس. وكلاهما مدينة أصيلة زاخرة بتراث شعبي غني، يخشى الكثيرون عليه من الضياع.

ج: مراكش في هذا الباب لا ينبغي أن تحيي تراثها الشعبي فقط، وقد تكلمنا سابقا عن الملحون كجزء منه، ولكن أيضا تقاليدها وفنونها وموروثها الشعبي الحقيقي ككل، حتى تدخل إلى روح العصر وإلى قالب العصر. لقد ذكرتموني الآن بالدقة المراكشية، إنها خصوصية مراكشية، وأعتبر أنها من الأمور التي ينبغي ألا تضيع ، بل يجب الحفاظ عليها ولو مع تهذيبها شيئا ما. فهي أساسا مبنية على أذكار صوفية، بحيث كانت هناك جماعات تنشد هذه الأذكار. ثم تأسست الأجواق والفرق، وانحرفت شيئا ما، في بعض القطع التي صار يؤديها من نسميهم «بالدقايقية». الخلاصة أن أصلها شيء مهم للغاية، وهو أصل صوفي. ولا يزال ممكنا الاستشهاد على ذلك من بيئة مراكش، عندما نتحدث مثلا عن «أولاد سيدي بونو» أو عن بعض الزوايا التي مازالت تتلى فيها القصائد والأذكار والقطع الصوفية.

هذه أمور كانت تؤدي مهمة التربية الشعبية، والتثقيف الديني، والعلاج النفسي، والنوعية الدينية للالتصاق بالدين، ثم لتنمية معرفة الدين على الطريقة الصوفية النظيفة.

كما كانت هناك مسألة مهمة في مراكش، وحتى في فاس، افتقدناها للأسف الشديد أو هي قلت كثيرا، رغم أنها من التراثيات المغربية الأصيلة، أقصد الدروس التي كان يستفيد منها الحرفيون وعامة الناس، بعد صلاة العصر أو صلاة المغرب. يعطيها علماء يبسطون القول للشعب في أمور الدين، ويظهرون لهم المعاملات والعبادات، ويعلمونهم كثيرا من الأمور المفيدة. أنا أعتبر أن هذا هو التراث الحقيقي ، الذي يجب أن يبقى في مراكش وفي غيرها، وأن تتم تنميته. إننا لم نرفع الأمية رغم إقبال الناس على التعليم. وفي نفس الوقت ضيعنا شكلا آخر من التثقيف، كان يتم بأسلوب تقليدي أصيل.

ولكننا الآن افتقدنا هذا التراث المضيء، سواء من حيث تلك الجماعات والأجواق والفرق الصوفية النظيفة، التي كانت تربط الناس بالأذكار، وتحملهم إلى جو الروحانية الطاهرة، أو من حيث التثقيف الذي كان يقوم به العلماء لفائدة عامة الناس كما أشرنا.

س: هذا يقودنا في آخر سؤال إلى ظاهرة المواسم التي يتستر بعضها بالدين، بينما هو في الحقيقة يمارس الدجل ويكرس التضليل.

ج: هذه أمور يجب مقاومتها، كما تمت مقاومة أساليب مسخ الدين، في وقت من الأوقات خلال بداية عهد الحماية، حيث قام الناس لمحاربة الطرق التي تنهج أسلوب الدجل، وفي المقابل كانوا يدعون إلى الرجوع للسنة، وللسلفية الحقيقية، وتطهير الدين من هذه الخزعبلات. هذا ما يجب أن يتم الآن إزاء بعض المواسم. فالاحتفال بشخصية علمية، أو دينية، أو حضارية كالأعلام البارزين، لأنهم رجال المغرب وصلحاؤه الحقيقيون، من أمثال عبد الله بن ياسين، وأبي العباس السبتي، وعبد العزيز التباع وغيرهم، أقول أن التذكير بهؤلاء، والتعريف بمواقفهم وجليل أعمالهم، هو شيء جميل يجب أن يبقى، وأن يستمر وأن يكون. أما استخدام هذا لخدمة بعض المظاهر التزويقية الفلكلورية، فهو أمر أستنكره. ونرجو من الله أن يوفقنا.