مجتمع

محمد فال القاضي أكاه: مذكرات عائد موريتاني من جحيم معتقلات البوليساريو (ح:19)

محمد سالم الشافعي/ عبد الكبير اخشيشن الثلاثاء 20 يونيو 2017
Tane tank.
Tane tank.

منشور المؤامرة الكبرى.. حالة طوارئ للبطش والترهيب والاختطاف

لم تكن تلك المرة الأولى التي تختلق فيها قيادة البوليساريو خطرا تزعم أنه يتهدد مشروعها كي تبرر بطشها بالأبرياء، ولكنها كانت الأخطر والأقذر‪،‬ حيث إنها الأكثر قابلية للتمرير في القواعد الشعبية لربطها بالتداعيات السلبية لذكريات الحرب مع موريتانيا. فبالرغم من أن الحكم في موريتانيا من أكبر الداعمين لها، فقد استطاعت هذه القيادة من خلال تعميم منشور «المؤامرة الكبرى» أن تقنع قواعدها الشعبية بأن موريتانيا لم تخرج من الحرب، وإنما أصبح دورها هو العمل الاستخباراتي بعد هزيمتها عسكريا.

وأشاعت أن انضمام الرئيس الموريتاني لمعسكرهم ليس سوى تكتيك للتغطية على شبكة المخربين التي أرسلها لتفتيتهم من الداخل، وقد برعت الأيادي الوسخة التي أعدت ذلك المنشور في تصنيف الأدوار التي زعموا أنها أسندت إلى «العناصر التخريبية» والتي تهدف في مجملها، حسب ما افتروا، إلى إبادة جماعية للصحراويين والقضاء على «ثورتهم».

ومن أجل إعطاء الأمر زخما يتناسب مع خطورته، تم إعلان حالة الطوارئ قصد بث الرعب في النفوس من أجل اعتبار أي جريمة تقوم بها القيادة مبررة، خاصة وأن المنشور الذي تم تعميمه يتحدث في بعض فقراته أن «المخربين» قد يعمدون إلى حرق الخيام وتسميم مياه الشرب.

ومنذ ذلك الوقت دب الرعب في جميع الأوساط، وبدأت حملة مجنونة ضد كل ما له علاقة بموريتانيا والموريتانيين حتى بلغ بهم الحد منع جزء من مكونات الثقافة الشعبية الحسانية التي تعتبر من القواسم المشتركة بين الصحراويين والموريتانيين، والتي هي جزء من الهوية الصحراوية فأصبحت الموسيقى الموريتانية من المحظورات باعتبارها تمثل نمط حياة أجنبية وانتشارها يؤدي إلى ذوبان الهوية «الوطنية»، كما تم منع الرجال من ارتداء الدراعة، وبالنسبة للثوب النسائي (الملحفة) لم تنجح محاولة إبداله بثوب يشبه الدشداشة التي يلبسها الرجال الخليجيون وله طرف يشبه طرف ملحفة.

وكان من نتائج تلك المسرحية السخيفة أن تحولت حياة الناس إلى فيلم من أفلام الرعب جعل الإنسان يخاف من ظله ويكلم نفسه وأصيبت العلاقات الإنسانية بهزة عنيفة، فانعدمت الثقة بين الإخوة وحلت محلها نظرة الشك وصار كل شخص يتجنب حتى الأحاديث العابرة مع جاره أو زميله في العمل حتى لا يتهم بالتخطيط لمؤامرة ضد «القيادة الرشيدة»، وبعبارة واحدة فقد تم غسل الأدمغة وإفراغها من قيم الخير كالمحبة والتسامح ليحل الشر محلها ويصبح الإنسان من شدة الرعب على أتم الاستعداد لتلفيق تهم ثقيلة لأخيه من أجل أن ينجو هو بجلده.

وخلال شهر شتنبر 1982 كانت الاختطافات قد بدأت، وكلها كانت تتم خلال الليل وبصورة بشعة تجعل كل واحد يصاب بالرعب مخافة أن يكون التالي، حيث يستيقظ الإنسان في الصباح ليجد أن زميله الذي نام ليلة البارحة إلى جانبه قد اختفى فينظر الباقون إلى السرير الذي أصبح خاليا دون أن يكون لأحد الشجاعة للتفوه بكلمة، إلا إذا كان من ضمن الحاضرين من يعتبر نفسه دون غيره من «حماة الثورة» فإنه يتهكم متشفيا في المختفي بعبارة أصبحت شائعة الاستعمال في تلك الفترة وهي أن المختفي قد استدعي إلى مهام أخرى.

و لن أنسى المرحوم محمد فال ولد أبهاه الذي كان سريره ملاصقا لسريري في مدرسة 12 أكتوبر وكنت أعتمد عليه ليوقظني في الصباح، وكان شابا خلوقا، بالكاد تسمع صوته حين يتكلم لأدبه، وذات يوم استيقظت متأخرا فسألت عنه لألومه على عدم إيقاظه لي في الوقت فجاءني رد أحد أولئك «الحماة» صاعقا بالعبارة المعهودة (لقد استدعي إلى مهام أخرى).

في هذا الجو المشحون بالكراهية لكل من هو موريتاني أو قادم من موريتانيا كنت قد بدأت العمل كمدرس للغة العربية للمستويات الإعدادية، والحقيقة أنني على المستوى الشخصي لم أكن مرعوبا الرعب الذي يعكس الجو المخيف الذي خطط له، وذلك لسبب بسيط وهو أني كنت أصدق بشكل أعمى ما يقوله «التنظيم» وحتى خلال أيامي الأولى في المعتقل بعد ذلك كنت لا أزال على تلك القناعة ‪.‬