مجتمع

محمد فال القاضي أكاه: مذكرات عائد موريتاني من جحيم معتقلات البوليساريو (ح:30)

محمد سالم الشافعي/ عبد الكبير اخشيشن الاحد 02 يوليو 2017
صورة من أقبية التعذيب
صورة من أقبية التعذيب

بعد وصلات من الترهيب والتعذيب.. تلميذي ينقذني من جحيم الحقيقة بحبل الكذب

استمر التحقيق طيلة أيام ووصل عدد الصفحات أكثر من ستين صفحة، أقسم صادقا أنها لا تشتمل على كلمة صدق واحدة سوى أن اسمي هو بالفعل كما وقعت به المحضر، ولكن قبل بداية المحضر كان هناك موقف من ذلك المحقق الصغير أشعرني بأن مقلوب الصورة ليس قاتما، وأنه ليس كل زرع في أرض الحمادة تحصد منه الأشواك.

بعد أن خرج ذلك القاتل وتركني مع المحقق الصغير‪،‬ سألني هذا الأخير سؤالا غريبا عما إذا كنت أستطيع تأليف قصة، وحين رأى استغرابي للسؤال أعاده بصيغة أخرى كانت أقرب إلى ما يريد البوح به، فجاء السؤال عن الخطوات التي يمر بها الكتاب حين يريدون تأليف القصص الخيالية، بدءا من افتراض للسيناريو، واستحضار للشخصيات الافتراضية، والأماكن، وغيرها، وصولا إلى التنفيذ الذي هو مرحلة الكتابة، وخلال حديثه لم أرد أن أورط نفسي في تصديق ما فهمت من أنه يريد أن يوصل إلي رسالة.

مفاد هذه الرسالة هي أنه علي أن أعترف بأي شيء مختلق كي أخرج من المأزق الذي أنا فيه، وقبل أن أطرد تلك الفكرة المتفائلة كان جانب الخير في نفس المحقق الصغير قد غلب على جوانب الشر في نفوس المجرمين الكبار الذين أقحموه في هكذا موقف دنيء، وإذا به يخرج عن أسلوب التلميح ويقول بشكل مباشر لا لبس فيه إنه لا يرضى لي بهذا الوضع، وأنه لن يسامح نفسه ولن يسامحني إن أنا بقيت في ذلك المكان.

ذهب المحقق إلى أبعد من هذا وقال لي حرفيا: «إن هؤلاء الناس لن يتركوك ما لم تعترف لهم بالكذبة التي يريدونها، ولا يهمهم إن مت في هذا الغار»، ثم سألني إن كنت مازلت أدخن وحين أجبته «بنعم» أعطاني علبة من أجود السجائر الجزائرية تسمى «الهقار» على اسم سلسلة جبال تقع بولاية تمنراست في الجنوب الشرقي الجزائري.

وأتذكر كذلك أنه أعطاني معها علبة كبريت، ولئن كانت عودتي للتدخين غلطة بعد أن قطعته أو على الأصح انقطع عني منذ حوالي ثلاثة شهور، فإني أعتقد أن تلك العلبة ساعدتني على افتراء قصة ما أنزل الله بها من سلطان، ومازلت أتذكر من الأشياء المضحكة المبكية في تلك القصة حين وصلت إلى محطة المكونين الفرنسيين الذين دربوني، ولكي تنسجم القصة مع التهمة الملفقة لنا، لم أتذكر من الأسماء الفرنسية سوى اسم سيدة واحدة كانت تدرسنا اللغة الفرنسية في الإعدادية فأدرجت اسمها وافترضت أن لها زوجا وأدرجته كذلك فأصبح لدي مدربان فرنسيان هما السيدة سوربي والسيد سوربي ‪(Madame Sorby et Monsieur Sorby)‬.

بعد أن انتهى مجلد الكذب ذاك وكان المحقق يساعدني ببعض الأفكار كي أظل في الاتجاه الصحيح الذي يعرف بحكم عمله أنه هو المطلوب، أعطاني ورقة صغيرة وطلب مني أن أكتب عليها التعهد الذي سيمليه علي، والذي جاء حرفيا بهذه الصيغة: «أنا الموقع أسفله محمد فال القاضي أكاه الموقوف بسبب انتمائي للشبكة الموريتانية الفرنسية للجوسسة والتخريب أقسم بالله العلي العظيم أن أظل مخلصا لثورة 20 مايو الخالدة حتى آخر قطرة من دمي»، ثم وقعت في أسفل هذا التعهد، وكنت وأنا أكتب كلمة القسم أتساءل بيني ونفسي عن قيمة قسم أقسمته وأنا صادق بأنني بريء ولم يصدقني أحد فكيف به وقد أديته تحت الإكراه؟.

جمع المحقق الصغير أوراقه ورحل، بعد أن تمنى لي عدم طول المقام، ولم أره إلا بعد ذلك اليوم بأكثر من عشر سنين وهو يبحث عن سيارة أجرة في أحد شوارع نواكشوط فكانت فرحتي كبيرة بأن هذه فرصتي لأرد له جزءا ولو يسيرا من جميله، لكنه للأسف أقسم أنه مسافر في نفس اليوم، ولن يستطيع الذهاب معي إلى البيت فأوصلته إلى حيث يريد، بعد أن نفى أن يكون في حاجة إلى أي خدمة أسديها له، ثم ودعته على أمل أن نلتقي في يوم يكون لديه الوقت ليجلس معي ومازلت أنتظره.