مجتمع

محمد فال القاضي أكاه: مذكرات عائد موريتاني من جحيم معتقلات البوليساريو (ح:38)

محمد سالم الشافعي/ عبد الكبير اخشيشن الأربعاء 09 أغسطس 2017
لم تكن صراعات بوليساريو تجد طريقها كما في هذه الصورة للعلن
لم تكن صراعات بوليساريو تجد طريقها كما في هذه الصورة للعلن

بعد عودتي لمركز الجرحى.. كيف عشت انقلاب ومظاهرات سنة 1988

بعد اختتام السنة الدراسية كانت فرحتي الأولى أني عدت إلى مركز الجرحى، حيث قضيت العطلة الصيفية وسط أناس عوضوا أعضاءهم التي بترت بمشاعر إنسانية ينعدم لها نظير تلك الأيام في أرض الحمادة، والفرحة الثانية كانت حين علمت بعد نهاية العطلة الصيفية أنه تم تحويلي إلى مدرسة 9 يونيو للسنة الدراسية الجديدة (1987-1988).

ومن حسن الحظ أن أصبح مديرها الرجل الفاضل ابن الأفاضل أحمدو ولد أسويلم ولد أحمد إبراهيم الذي شعرت بالأمان تحت إدارته مثلما شعرت به تحت خيمة والده الفاضل قبل ذلك بتسع سنوات، حين وطأت قدمي ظلها وأنا أتحسس طريقا ما كنت أظنها مليئة بالأشواك.

كان ذلك الرجل كأنما انتشلني من وهد سحيق تمت زحزحتي إليه منذ أكثر من ثلاث سنوات فكنت معه كمن رأى في المنام أنه رمي في بئر مليئة بالأفاعي والعقارب وحين استيقظ فزعا وجد أمه وهي تبسمل وتنفث نحوه، ورغم أنه كان يتعامل مع الكل بمنتهى اللطف والأدب فقد كان يخصني باهتمام شخصي خارج إطار العمل إذ كان يمنحني الملابس من حقيبته الخاصة. ومن المعروف أنه مع أناقة أخلاقه كان أنيقا في ملبسه، والأهم من ذلك أنه أول شخص أسمعه يقول بطريقة بليغة – وهو رجل مفوه – بأنه لا يصدق أكذوبة الشبكة الموريتانية.

فقد كنت معه ذات ليلة مع مجموعة من المعلمين نستقبل التلاميذ الواصلين من المخيمات بعد العطلة الصيفية، وكان أن تصادف وصولهم مع هطول أمطار غزيرة طوال الليل، وقد استمرت عملية تنظيمهم في المراقد وتوزيع الأغطية والطعام عليهم، ومن ثمة مراقبة أوضاعهم حتى الصباح، إذ كنا في كل مرة نضطر لتحويل من تتسرب المياه إلى غرفهم نحو مكان جاف.

ومع تأخر الوقت لم يبق ساهرا سوى نحن الاثنين، وفي الصباح وعندما اجتمع الكل في ساحة العلم كما هو متبع، قال بسخرية لاذعة تلك الكلمة التي كنت أتوق إلى سماعها، وقد صرخت بها عدة مرات أمام من حققوا معي ،وهي أن ليلة البارحة أثبتت أنه لم يعمل باستماتة وإخلاص سوى المندسين، وبعدها نادى علي بأن أذهب إلى غرفتي وأنام طول النهار.

وطوال الفترة التي أمضيتها تحت إدارة ذلك السيد أحسست أني بدأت أستعيد جزء يسيرا من آدميتي وثقتي في أن الحياة يمكن أن تستمر من جديد، بعد أن كنت مجرد ميت يمشي على قدميه في قاموس الجلادين، وإن كنت حاولت أن أبقى على مسافة بعيدة من أغلبية الناس حتى لا أترك فرصة لأصحاب «الأقلام السيالة» الذين يعتبرون أمثالي بضاعة رائجة لخطب ود الجلادين وتسجيل نقاط نضالية على درب «التحرير» عند من يهمه الأمر.

بفعل حذري من مخالطة الناس والابتعاد عن مجالسهم الخاصة، لم آخذ أي خبر عن الأمور الخطيرة التي كانت تجري في المخيمات والمراكز إلا بعد أن طفت على السطح وأصبحت حديث البشر والحجر، وكادت تجتث كل شيء من جذوره ولم يعد من سبيل لإخفائها، ذلك أنه في سنة 1988 كانت الخلافات الصامتة بين أجنحة قيادة البوليساريو قد بلغت ذروتها، ويبدو أن كل طرف كان يخطط في صمت ويؤطر داخل المخيمات لصالح معسكره إلى أن حانت ساعة الصفر فأعلنت استقالات جماعية على كل المستويات وفي كل القطاعات وأعلن الجناح المتمرد الذي كان من أبرز متزعميه عمر العظمي وعبد القادر الطالب عمر حكومة موازية للحكومة القائمة وتوج هذا التمرد باندلاع المظاهرات التي عمت أغلب المخيمات وتم خلالها تكسير الإدارات والعبث بمحتوياتها خاصة في مخيم الداخلة، وأمام هذا الانفلات أعلنت القيادة حالة الاستنفار الشامل وأنزلت فرقا عسكرية إلى المخيمات لقمع المظاهرات، والتي رفعت فيها شعارات قبلية بعضها يتهم إحدى القبائل بالاستبداد وإقصاء الآخرين وهو أمر كان يعتبر في منتهى الخطورة طبقا للعقيدة، التي كانت تروج لها القيادة والتي  تعتبر القبلية – نظريا - قنبلة موقوتة تتهدد مشروعها. وبعد أن أخمدت المظاهرات بدأت الاعتقال تطال أعضاء الحكومة الموازية وكل الذين  أعلنوا الاستقالة.