مجتمع

محمد فال القاضي أكاه: مذكرات عائد موريتاني من جحيم معتقلات البوليساريو (ح:50)

محمد سالم الشافعي/ عبد الكبير اخشيشن الأربعاء 23 أغسطس 2017
slide_421014_5390906_free
slide_421014_5390906_free

محمد موسى ولد المختار (قتلو البراءة والنبوغ).. البوليساريو تأتي به من باريس إلى حفرة جهنم

هو نجل القاضي الجليل المختار ولد محمد موسى، كان قريبا إلى قلب والده فكناه بالمنى لما رأى فيه من صفات يتمنى كل أب صالح أن تتجسد في ولده، وقد رأى فيه كل من خالطوه تلك الصفات.

ذات مساء أصبح بالنسبة لي مساء شؤم، علمت أن قيادة البوليساريو أتت به من باريس، حيث كان يعمل في مكتبها إلى حفرة جهنم المعروفة بمدرسة 12 أكتوبر بدعوى إعادة التكوين العسكري فذهبت للسلام عليه فقد مضت سنوات لم نلتق فيها، وخلال الحديث معه أحسست بأنه غير مرتاح للمبرر الذي أتوا به من أجله، ويومها كانوا قد بدأوا بالاعتقالات التي تستهدف القادمين من موريتانيا.

ومازلت أتذكر أن آخر كلام بيننا هو وصيته لي بأن أنتبه لنفسي، ثم صافحني مودعا دون أن أدري أنه سيكون  الوداع الأخير، وبقيت على أمل أن أراه مجددا حتى كانت الصدمة التي كانت مزلزلة بالنسبة  لكل من عرفوه.

واليوم أضع صورته على طرف الطاولة أمامي وأبكي بكاء الطفل حين لا يستطع ترتيب أشيائه كما يحب، لأن الصورة على قداستها لا تستطيع أن تشغل المقعد الذي كان يشغله أمامي كي أحاكي آخر لقاء بيننا، أيام كان يرد على من يسأله عن مدى اشتياقه للأهل والأحباب: «هؤلاء قومي، ولن يسألني ربي، وما أعجلك عن قومك يا موسى»، وفجأة يغدر به «قومه» وبإخوته فيختفي إلى الأبد لتبقى ذكراه الأليمة.

عرفته عن كثب حين كنا عضوين في لجنة لإعداد المناهج الدراسية في إحدى مدارس البوليساريو، وعرفت أنه ابن القاضي الجليل المختار ولد محمد موسى، ولا أظن أن تلك المعرفة زادته عندي كثيرا، لأنه كان ببساطة «شبل من ذلك الأسد»، فقد كان يمتاز بأخلاق عالية قل نظيرها في تلك الأيام، وكان على صغر سنه مثقفا، حاد الذكاء، لامعا في الكثير من مجالات المعرفة، كان رياضيا وفيزيائيا بامتياز، يجيد ثلاث لغات حية، وله باع طويل في فن الأصول والفقه، ومع هذا كان مثالا في التواضع ونكران الذات، يحب الخير للجميع، دون إذن يدخل قلب كل من خالطه، لم يمارس قط أي عمل إلا وأبدع فيه، بدءا بالتدريس، وانتهاء بالعمل الدبلوماسي.

كل ذلك لم يشفع لمحمد موسى ولد المختار ولد محمد موسى عند القتلة من جلادي البوليساريو، الذين رأوا في صدقه وإخلاصه وتفانيه كغيره من الشباب الموريتاني خطرا سيكشف حقيقة كونهم ليسوا سوى مصاصي دماء يتاجرون بدماء وعرق الأبرياء، فتبت أيديهم... وليتك يا موسى ترى قاتليك.

يبدو أن الله استجاب لدعوات والدك الكريم لهم بشتات الشمل إن كانوا ظلموك، الثورة التي قتلوك باسمها باعوها بالثروة، المبادئ التي آمنت بها قايضوها بالمراعي وبدكاكين الخردة، بنادقهم استعملوها أخشاب بناء لتشييد البناءات والمتاجر في بلاد ليست تلك التي جئت للقتال معهم من أجلها، الجمهورية الفاضلة حولوها مخلاة متسول يستجدون بها المنظمات الإنسانية ثم يصطافون بريعها في بلاد العجم بعيدا عن أنظار تلك العجوز التي أصلحت لها ذات يوم جهاز الراديو كي تتابع انتصارات من سيقتلونك غدا بدم بارد، المدارس والمؤسسات التي شاركت في تشييدها صارت لعبة للبنات تقليدية، ابن الشهيد الصغير الذي كنا نبكي معك لبكائه كبر، ثم هاجر للعمل في مزارع الطماطم في بلاد الأندلس. فماذا بقي يا سيدي كي تحزن عليه؟

فلترقد روحك الطاهرة في جنات الخلد وليخسأ الجلادون في الحطمة.