مجتمع

محمد فال القاضي أكاه: مذكرات عائد موريتاني من جحيم معتقلات البوليساريو (ح:62)

محمد سالم الشافعي/ عبد الكبير اخشيشن الاحد 10 سبتمبر 2017
رائحة تندوف في سلع المخيمات بمورتانيا
رائحة تندوف في سلع المخيمات بمورتانيا

وأخيرا عناق رائحة من أمي.. في منزل خالي نمت لأول مرة بعمق بعيدا عن كرابيس تندوف

حين أوقفنا السيارة أمام الباب كنا نرى من فوق الحائط الذي كان قصيرا جماعة متحلقة في البهو حول الشاي، وبمجرد دخولنا تعرفت عليه من بين الحاضرين، وبعد السلام عرفته على نفسي فقام وعانقني وبدأ يسألني من جديد عن حالي وكيف وصلت وما ذا يريد الدرك مني. وخلال سردي القصة عليه كنت أرى علامات الفرح على وجه نائب قائد الدرك الذي يبدو أنه كان يصدق روايتي، ولكن طبيعة عمله كرجل أمن تفرض عليه أن يتحقق من هويتي بشكل قاطع، وكان قد قال لي ونحن في الطريق إن علاقتهم برئيس المحكمة وطيدة وأثنى عليه كثيرا، مشيدا بأنه حل الكثير من النزاعات التي كانت مستعصية في المدينة، مما أكسبه سمعة طيبة في كامل ولاية آدرار.

لما انتهت جلسة الشاي، والتي كان الحديث المسيطر عليها هو قصتي وغرابتها عند الحاضرين، وقف الدركي وخاطبني بأن علينا أن نذهب، فرد عليه خالي (أبابه ولد أمد) في هدوء بأني لن أذهب معه وأن ذمة الدرك قد برئت مني، لم يزد الدركي إلا أن ابتسم وقال موجها كلامه لي: «الحمد لله لقد اخترت خالك عنا»، الأمر الذي يعني أنه بالفعل لم يكن يرغب في تعطيلي عن الالتئام بالأهل، بعد أن سمع قصتي الحزينة، ولكنه كان يريد أن يضمن أن لا تكون لي قصة أخرى تكون لها تداعيات أمنية.

بعد أن تمنى لي سفرا سعيدا ورحل وأصبحت تحت رعاية خالي وفي ضمانته، أحسست أن كابوسا ثقيلا كان على صدري قد انزاح، ويعود ذلك الكابوس إلى أني كنت مرعوبا طوال الوقت من أن يحدث طارئ ما أعاد بسببه إلى الجحيم الذي لم أكن أصدق أنني سأخرج منه، ولي من القصص المشابهة ما يبرر ذلك الرعب. فقد سبق خلال حكم ولد هيدالة أن تمت إعادة أناس فروا من مخيمات تيندوف إلى موريتانيا بدعوى أنهم صحراويون مطلوبون لدى سلطتهم.

ومن المعروف، حسب ما تم تداوله في المخيمات، أنهم تبخروا بعد أن تسلمتهم قيادة البوليساريو، وقبل ذلك اختطفت تلك القيادة شخصا يدعى محمد بانبي من ضواحي نواكشوط ليقضي ما يقرب من عقد من الزمن في معتقلاتها النازية، مما يثبت أن مقولتها بطول اليد تحمل شيئا من الحقيقة بفعل تعاون النظام الموريتاني معها في تلك الحقب السوداء من تاريخ المنطقة ككل، وبفعل صمت النظام الجزائري الحاضن لها بالرغم مما قيل عن تحقيق قام بها ضباط مخابرات جزائريون حول الادعاء بوجود شبكة من الجواسيس الموريتانيين، وخروجهم باستنتاج أنه يستحيل أن يكون للموقوفين أي مؤهل كي يكونوا مخبرين، وأن هذا الاستنتاج دفعهم لتقديم نصيحة لقيادة البوليساريو بأن يطلقوا سراح كل الموقوفين، وأن يعملوا على جبر الضرر الذي لحق بهم تفاديا للأخطاء التي وقعت فيها الثورة الجزائرية ضد بعض أبنائها، وهو الأمر الذي لم تعبأ به القيادة.

أمضيت تلك الليلة مع خالي وكانت أول ليلة أنام فيها بعمق منذ مغادرتي لمخيمات تيندوف قبل أسبوعين إلى درجة أني بعد صلاة الصبح عدت إلى الفراش وتابعت النوم ولم أستيقظ إلا بعد عودة الخال من عمله في الزوال، وفي المساء خرج معي للبحث عن وسيلة نقل متجهة إلى نواكشوط، بعد أن أقنعته أنني لن أستطيع تلبية طلبه بالجلوس معه لأيام كي أستريح، وفي المحطة أخبرنا الناقلون بأنه لا يمكننا إيجاد سيارة نقل صغيرة إلا غدا صباحا وأنه لا يوجد سوى شاحنة كبير من مرسيدس 1924 محملة بالتمور وأشخاص قليلون ستنطلق بعد قليل فقررت السفر فيها، وأتذكر أن تذكرة الركوب فيها كانت 600 أوقية وأنا مازال معي راتبي كاملا لمدة  12 سنة والبالغ 6000 أوقية، لذلك سددت عن أحد الركاب قال إنه محتاج، وقد تعرفت عليه بعد ذلك يمتهن التسول في شوارع نواكشوط فعرفت أنه كان عائدا من إجازة عمل، ولم يكن يعرف أن محصوله في اليوم الواحد من التسول أكثر من راتبي لمدة 12 سنة وإلا لما كان قبل أن أسدد عنه تذكرة يكفيه الوقوف دقائق عند الإشارة الحمراء كي يجمع ثمنها.