مجتمع

طارق جبريل يكتب عن : سيمو بائع الفرح !

بقلم: طارق جبريل (حكاوي الأحداث) الخميس 07 ديسمبر 2017
Capture d’écran 2017-12-07 à 13.50.20
Capture d’écran 2017-12-07 à 13.50.20

AHDATH.INFO

ما أن تتوقف عجلات القطار، الذي يقلك من الرباط في محطة الدارالبيضاء الميناء، حتى يخرج الناس إلى «جوف» البيضاء، المدينة الغول، يتفرق الناس في طرقات كازا حيث أماكن عملهم ومورد رزقهم.

تعودت منذ أمد بعيد أن أعرج على شارع الجيش الملكي باحثا عن «سي محمد».. حيث «الفطور بنكهة سرغينية».. وحيث «الحكاوي» تتناسل من مرتادي «كروسته».. شاب من عامة الناس، ملح الأرض، دفعته الحياة للبحث عن مصدر رزق ليعيل والديه وأسرته الصغيرة..

قدم سي محمد، حسب روايته، من نواحي قلعة السراغنة بعد أن ضاقت سبل العيش هناك، قاده البحث عن «لقمة عيش» إلى «كازا»، هداه تفكيره أن يقتني «كروسة» لتكون مصدرا للرزق و«إفطارا» للعابرين من هنا وهناك.. فكان أن نجحت الفكرة وهي في مهدها، فالأمر لا يتطلب أكثر من «كروسة» و«بوطا صغيرة» وبراد وكؤوس «أتاي» وبيض ومثلثات الجبنة مع «خبز المحراش».

لم يسمع الرجل برخص ممارسة المهنةولابقوانين المدن ولايعنيه أمرها.. عزم على الأمر وتوكل.. قناعته أنه ينتمي لهذه الأرض، وعليه أن يفعل شيئا من أجل والديه وفلذات كبده..

اختار الرجل زاوية في شارع الجيش الملكي بالقرب من «طاكسيات» الحي المحمدي وراح يعرض على القوم «فطوره» راجيا من الله التوفيق.. بسرعة كبيرة خلق الرجل زبناء من كافة الطبقات، مدير وكالة بنكية، سائقو «طاكسيات»، مسير وكالة أسفار، ماسح أحذية... طلبة جامعيون.. كل أطياف المجتمع.

حين تقف عن بعد وتراقب الرجل، يغمرك إحساس أن الرجل يبيع «محبة الناس» لا «سندوتشات البيض بالجبن» و«كأس أتاي».. تتناهى إلى سمعك عباراته المحببة: «واااااانت كوب اتاي.. فطر ليا مع راسك».. هذا رجل وهبه الله المقدرة على الحب ..

فيأحدصباحات «كازا» والبرد يتسرب إلى «العظام»، أتت إليه امرأة طاعنة في السن كانت ترتعش من البرد وينزلق «الزيف» عن شعرها الأبيض الذي يتمايل على جبينها كمياه الشلال، مدت إليه درهما ليمنحها «كأس أتاي» عله يحمل إليها الدفء بعد أن أنهكها الزمهرير، سألها «سيمو»: «واش فطرتي مميمتي»، صمتت ولم تجبه، لكن عيناها اعترفتا بالجوع والضنك، أخرج «سيمو» كرسيا بلاستيكيا صغيرا من تحت «كروسته» وأجلسها فيه، ثم مد لها «كأس أتاي» واختار خبزا طريا مع البيض ومثلث الجبن وأضاف إليه «زيت عود سرغيني» ثم انحنى أمامها وأعاد إليها درهمها: «كولي مميتي والا مازال خصك المكلى نزيدك».. لمحت عيني العجوز فإذا بدمعة تطفر من المآقي وتبعتها: «سير آآآولدي الله يلاقيك مع ولاد الحلال ويعطيك الخير».. تنهد سيمو ورفع رأسه إلى السماء، لعله تذكر والدته نواحي قلعة السراغنة، ثم تمتم بحمد الله وانهمك في خدمة زبائنه..

حاربته السلطات مرارا وصادرت «كروسته» عدة مرات وكانت ردة فعله دائما: «آش غادي ندير راه تابعني الوالدين ومراتي واش بغوني نكريسي عباد الله.. ما نديرهاش وخا نموت من الجوع».. كان نادرا ما يختفي إلا بسبب هذه المصادرة، وحتى إن كان سيتغيب لأمر ما، كان يعلمنا قبل يومين حتى نتدبر أمرنا.. من المفارقات أن منع السلطات له يزيد من «مريديه»، فما أن يختفي، إلا ونبحث عنه في الأزقة المجاورة.. 

في إحدى المرات ذكر أن زوجته على وشك أن تضع له مولودا وسيضطر لتركنا لمدة أسبوع ليرى ما جادت به السماء من صلبه.. تركنا نتخبط ذلك الأسبوع بين المقاهي، التي يتفانى فيها النادلون لخدمتنا ويمنحوننا لقب «الأساتذة».. لكنهم لا يعلمون أن «سيمو» كان قادرا على جعلنا نلتقي عنده ونتعارف بفعل المحبة، فالرجل لا يصنع خبزا شهيا وبيضا لذيذا و«كأسا منعنعا» فقط.. الرجل كان ومازال يمنحنا ذلك بمحبة كبيرة وبالكثير من «الإنسانية» حتى صرنا ننعت بـ«شلة سيمو السرغيني».

من «سيمو» تعلمنا الكثير من القيم، كان أجملها «القناعة».. الحكمة في الغالب الأعم تأتي من البسطاء.. عمت صباحا أيها الرجل الجميل..