بوابة الصحراء

الشاي الصحراوي بين القديم والحديث

الحامد أحمدجباب الخميس 21 يونيو 2018
IMG-20180620-WA0010
IMG-20180620-WA0010

بوابة الصحراء: الأستاذ الحامد أحمدجباب

في الجنوب المغربي كما في موريتانيا والجنوب الجزائري مجتمعات لها صلات اجتماعية ونسبية قوية تختلف في تفاصيل معينة، تجمعها اللهجة الحسانية وكل لهجة تتأثر بمحيطها اللغوي، إلا أن هناك وحدة تجمعها وتشكل قاسما ثقافيا مشتركا بين الدول الثلاث بالإضافة إلى قواسم عديدة أخرى والحديث هنا عن كاسات الشاي الأخضر بطقوسه وتقاليده (أتاي) وهو مشروب بارز وله مكانته الخاصة إلا أنه في بدايات ظهوره لم يكن مولودا متفق عليه بل كان مثار جدل ديني واسع ، وفي نفس الوقت له خصوصية سياسية وريادية واقتصادية .

أما الجدل الديني فكان فقهيا بامتياز فانقسم الفقهاء بين من يراه ترفيها عن النفس ومن يراه ضياعا للمال والوقت ومنهم من وصل إلى تشبيهه بالخمر معتمدا على وجه شبه خفي وهو الصداع الذي يعاني منه شارب الشاي إذا لم يشربه في وقته المحدد إلا أن تلك الخلافات تلاشت أمام الحاضنة الاجتماعية التي أحيط بها الشاي (أتاي).

إلا أننا هنا لا بد من استطراد الرأيين للإفادة فنجد العلامة بيدر ولد الامام الجكني الشنقيطي يحرم الشاي في أبيات شعرية يقول فيها :

إن الأتاي وإن سحت سحائبُه ۞ لم يجدِ شيئا به تقوى مذاهبه

لم يغن عن غيره يوما وقيمته ۞ يوما بها يكتفي الأيام صاحبه

وما يجر له إلا حلاوته ۞ لدى الحساة وذا يدريه راغبه

وفعله دائما جرا حلاوته ۞ فيه ارتكاب الهوى المنهي راكبه

من أجل ذا صار مجموع الأتا سرفا ۞ لا تسرفوا قال من تخشى عواقبه

وعلى نهج بيدر ولد الإمام سار العالم الأديب بابه بن محمودا بن محنض بابه الديماني رحمه الله حين قال:

نحِّ عني الأتايَ إن ارتشافِي ۞ لكؤوس من الأتاي ضلالُ

تَلَفُ المالِ واستدارة شِرْبٍ ۞ وفضولٌ من المقال يقالُ

وكفاهُ أن الأطباءَ قالوا ۞ إنه في الجسوم داءٌ عضال .

ومع الموقف الشعري المناهض للشاي لم يجد عامة أهل الصحراء بدا من إعطائه مكانة سامقة حيث ارتبط برجال المال والجاه دون غيرهم من عامة الناس حيث لم يكن المجال فسيحا أمام الكل بل كان لخاصة الخاصة ما جعل بعض الفقهاء ينظر إليه نظرة أخرى لعله يجد مخرجا فجاءت فتاوى أخرى ترى عكس الرأي الأول فوجد الشاي ما ينقصه من حاضة حيث احتضنته الحاضنة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينة أخيرا حيث جاء الرأي الفقهي الأول مخففا وكان من طرف العلامة محمد العاقب ولد مايابى الجكني رحمه الله تعالى حيث يرى التخفيف في شأن الشاي ويذهب إلى إباحته ويقول في ذلك :

هو الخمر إلا أن فيه منافعا ۞ وليس به إثم كبير ولا سك

أتانا "أتايٌ" لابس ثوبَ شبهة ۞ تنازعه فيه الإباحة والحظر

فطورا له شبه العسول وتارة ۞ يريك بكبريائه أنه الخمر

وعلى نهج ابن مايابى سار العالم الشاعر أبو مدين بن الشيخ أحمدو بن سليمان الديماني رحمهم الله حين قال من قصيدة رائعة

ألا فاسقني كأساتِ شاي ولا تذرْ ۞ بساحتها من لا يعين على السمر

فوقت شراب الشاي وقت مسرة ۞ يزول به عن قلب شاربه الكدر

من هنا برزت نخبوية الشاي وخصوصيته ولذا خص أهل تلك المناطق الشاسعة الشاية بأجمل ما يملكون هو الناصية الكلمة فكان للشاي أدب رفيع يسكب في المجالس كما تسكب كاسات الشاي ، لأن الشاي تربع على قلوب الأدباء فكان ملهما لهم فمن الشعراء من تناوله في غرض البكاء على الأطلال ومنهم من تناوله ضمن غرض الغزل حيث يقول أحدهم :

لولى الأتاي ولولى البيض والعيس *** لما وجد بين الإنس تأنيس .

إلا أن التغني بالشاي (أتاي ) يمتاز بالطرافة والخفة مع ما يحمله من دلالة تاريخية واقتصادية و تمايز اجتماعي .

وبما أن الأتاي كما أسلفنا كان مائدة من موائد الكبار كان للباحثين عن مجلسه تسمية خاصة في الثقافة الحسانية حيث يطلق عليهم : " السكاكه " وهم الذين لا يمتلكون الشاي ويبحثون عن من يعطيهم كأسا ولو على ظهر دابة ، كما أن المراة كانت مقصية من مائدة الشاي تناولا وتحضيرا .

ووصلت قيمة الشاي في المجتمعات الحسانية إلى درجة ربطه بالتحصيل العلمي حيث يقول أحد الأدباء :

فلا عيش يطيب بغير علم *** وكأس في العظام لها دبيب

فلولى الكأس ما شرحت صدور *** ولولى العلم ما عرف اللبيب

ثم أخذ الشاي مكانته المهمة داخل البيت الصحراوي إلى يومنا هذا، ما تميز به الشاي في عصره الحديث هو كثرته وانتشاره وتناوله من الجميع بما في ذلك الطفل والمرأة ، وبقي يحافظ على طقوس إعداده جزئيا مقارنة مع القديم.

وتؤكد أبيات العلامة الجليل بابا بن الشيخ سيديا رحمه الله الاصل المغربي للشاي فقد كان يستورد إلى هذه البلاد من طنجة

يُقيمُ لنا مولايُ والليلُ مقمرٌ ۞ وأضواءُ مِصباح الزجاجة تُزْهِرُ

وقد نسَمَت ريحُ الشمال على الرُّبى ۞ نسيما بأذيال الدجى يتعَثرُ

كؤوسًا من الشاي الشهيِّ شهيةً ۞ يطيب بها ليل التمام فيقصُرُ

تُخِير من تجار طنجة شاهُها ۞ وخِير لها من تلج وهران سكّرُ

رغم الدلالة التاريخية العميقة لهذه الأبيات من ترابط تاريخي بين البلاد المغاربية حيث كانت طنجة شريان تجاري لقوافل تجارية تتحرك من أقصى موريتانيا مرورا بالجزائر حتى طنجة إلا أن النكهة الأدبية قد طغت على الأبيات .

فهل تجمعنا كاسات الشاي بعد أن فرقنا المستعمر وقطعتنا أوصالنا الخلافات البينية ؟