ثقافة وفن

حوار.. سعيد بنيس*: المغرب ينزح نحو العالم الافتراضي

حاوره محمد أبويهدة الثلاثاء 04 ديسمبر 2018
سعيد بنيس
سعيد بنيس

AHDATH.INFO

التحولات المجتمعية المرتبطة بالطفرة الرقمية وتطور وسائل الاتصال تطرح الكثير من الأسئلة حول قصور البنيات الأساسية للمجتمع عن مواكبة هذه التحولات التي يتفاعل معها الشباب بشكل كبير، بل يصبح فاعلا فيها.

هذه الأسئلة كان لابد من طرحها على سعيد بنيس أستاذ العلوم الاجتماعية بجامعة محمد الخامس لتسليط الضوء على هذه الوضعية التي يفسرها، بكونها نتيجة لانتقال داخل المجتمع من الفرد المتواصل إلى الفرد المتصل.

*أثرت الطفرة الرقمية والتكنولوجية في سلوك الفرد داخل المجتمع.. ما هي أبرز سمات ومظاهر هذا التأثير؟

**يمكن إجمال أبرز سمات ومظاهر تأثير الطفرة الرقمية والتكنولوجية في سلوك الفرد داخل المجتمع المغربي في الانتقال من الفرد المتواصل إلى الفرد المتصل، مما نتج عنه عدة تحولات منها التحول من الجمعي إلى الفردي إلى الانعزالي، وعودة شكل جديد من التفاعل الجمعي تحت مسمى الفردانية الجماعية (Individualisme collectif). كما أن المغرب يشهد حاليا «نزوحا» من العالم الواقعي إلى العالم  الافتراضي، ففي خضم التزايد المطرد لرواد الشبكات الاجتماعية  تتحول كثير من الأفعال التي كانت فردية في السابق إلى جماعية تتم مشاركتها عبر المباشر، مثل الهجرة السرية عبر قوارب الموت...

فسواء كانت بصيغة الجمع أو بصيغة الفرد تركز الفردانية الجماعية على تماهى الفرد مع الجماعة، وتماهي الجماعة مع الفرد لتعكس التداخل بين الشعور بالانتماء إلى المجتمع المغربي وسلوك الفاعلية، والرغبة في الانخراط في الدينامية المجتمعية والتأثير في السياسة العامة للبلاد. وقد يصف البعض هذه الوضعية بـ«انفلات الشباب»، لكن الواقع الافتراضي يكشف أن هناك فردانية تكسب مساحات إضافية داخل الأسرة قد تتحول إلى انعزالية للفرد داخل أسرته، وانتقالا من الأسرة الملتحمة إلى الأسرة الانعزالية، أي التي تعيش بشكل مشترك لكن أفرادها منعزلون عن بعضهم البعض. في هذا السياق يمكن الإقرار أننا إزاء حالة من «التوحد الاجتماعي».

ومما يزكي هذه الملاحطات، هو أن المغاربة يقضون وقتا أطول على الأنترنت، فقد أكدت الدراسات أن مستعملي الأنترنت في المغرب يفوق المتوسط العالمي بـ8 نقاط، وأن ثلثي المستعملين يستعملون الأنترنت يوميا، وما يقارب نصفهم يقضون أكثر من ساعة على الأنترنت من خلال الهاتف المحمول.

*كيف انعكس ذلك على العلاقات الاجتماعية وعلى الفعل السياسي؟

**يمكن توصيف انعكاسات هذا التأثير من خلال بروز فاعلية جديدة شعبية افتراضية، وتراجع جميع بنيات الوساطة الكلاسيكية، لا سيما منها الأسرة والمدرسة والجمعية والحزب والنقابة. فتحقق العلاقات الاجتماعية واستمراريتها أصبح يرتهن بالتوافقات الاتصالية التي تحكمها شبكات اجتماعية بعينها كالفايسبوك وتويتر والواتساب، حيث الانتماء الاجتماعي تم تعويضه بانتماء رقمي إلى مجموعات افتراضية، يلجأ من خلالها بعض الأشخاص إلى إنشاء المجموعات المغلقة على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، بهدف خلق عالم جديد من الاتصال والتعارف ومناقشة الموضوعات المحظورة، بعيدا عن الفضاء العام الذي يتحفظ على هذه الموضوعات. وهو ما يمكن اعتباره هروبا نحو عالم افتراضي يتيح هامشا أوسع ورحب من الحرية، بعيدا عن قيود المجتمع والسلطة.

كما أن سبب الهروب إلى العالم الإفتراضي مرده تآكل فضاءات العالم الواقعي أمام  الفعل السياسي بل وغيابها، مما أدى إلى أن ممارسة المعارضة السياسية أضحى خارج البنيات المؤسساتية، عبر تكوين وبناء مجموعات مغلقة تؤسس على توافقات وتجاذبات تصبح قناعات تؤطر حياة المنخرطين في هذه المواقع المغلقة، مما تتولد عنه ثقافة مضادة لما يتداول في المجتمع.

فيتحول معه أفراد هذه المجموعات المغلقة إلى «أبطال إشكاليين» أو إلى مجموعات مؤثرة. ويبقى الوقع الأكثر أهمية هو تأثير مواقف هذه المجموعات في منظومات العيش المشترك والرابط الاجتماعي ونسق التنوع. فتناسل هذه المجموعات تظهر أن المغاربة أصبحوا جزءا من العالم المعولم، كما تؤكد حصول تحول من مجتمع التواصل إلى «مجتمع الاتصال».

ومن الآثار المترتبة على هذا التحول، أن الأنترنت أصبح فضاء رئيسا للتنشئة، خصوصا أنه يوفر هامشا واسعا من الحرية لتداول القضايا ذات الأولوية بالنسبة للمواطنين، كما أن هذا التحول سينقلنا إلى نوع من الديمقراطية التداولية، المتحررة نسبيا من الرقابة الرسمية، فنحن إزاء مواطنة واقعية أضحت افتراضية مفتوحة على جميع الرهانات.

*هل ثمة علاقة بين سطوة العالم الافتراضي والحركات الاجتماعية التي أنتجها، وبين تراجع الفعل السياسي وفقدان الثقة في الأحزاب والمنظمات النقابية؟

**نعم هناك علاقة بين سطوة العالم الافتراضي والحركات الاجتماعية التي أنتجها وبين تراجع الفعل السياسي وفقدان الثقة في الأحزاب والمنظمات النقابية، وذلك لأن الانتقال من مواطنة واقعية كانت الأحزاب والنقابات، تمثل محاضنها الأساسية إلى مواطنة افتراضية تجد تجلياتها في التفاعلات الرقمية، وتنشئة اتصالية مبنية على آليات جديدة ومتنوعة للتعبئة السياسية من قبيل الهاشتاغ والبوز ومقاطع الفيديو والصور.

فتم التخلي على الإيديولوجيا كحاضن للحركات الاحتجاجية، واعتماد الإيماجيولوجيا (اعتماد الصورة بدل الفكرة) كمحرك وباعث على الممانعة والتصدي. كما أن الفضاء الرقمي أزاح كثيرا من الحواجز التي كانت قائمة في السابق على المستوى المجالي حيث كان مركز الاحتجاجات هو العاصمة، بينما أضحت اليوم تنظم في مختلف مناطق المغرب، ولم تعد ممركزة فقط في العاصمة، والشيء نفسه بالنسبة لتداول الأخبار، إذ أضحى المواطنون يهتمون أكثر بالأخبار المحلية، بعدما كان الاهتمام في السابق منصبا أكثر على الأخبار الوطنية «القادمة من الرباط».

وبالرغم من أن الفضاء الافتراضي يتضمن عدة سلبيات ويشكل «بؤرة للصراعات الافتراضية»، فإن الطفرة الرقمية أتاحت كثيرا من الفرص لتعزيز قيم المواطنة، إذ أضحى الافتراضي فضاء لممارسة «النشاط السياسي الافتراضي»، لتعويض تراجع دور الأحزاب السياسية وجمعيات المجتمع المدني.

*بعد الطفرة الرقمية، هل يمكن الحديث عن تحول في الهوية الثقافية للمجتمع وفي قيمه، وهل لذلك علاقة بتنامي خطاب الحقد؟  

**لا يمكن الجدال في كون  التحول الذي طرأ على الهوية الثقافية للمجتمع المغربي وقيمه يرتبط ارتباطا وثيقا بالطفرة الرقمية، لا سيما أن هذه الأخيرة خلقت هامشا من الحرية شكل فضاءا جديدا للتعبير عن تمظهرات التنوع المجتمعي، بموازاة الظهور العلني لبعض الفئات والمجموعات، التي لم يكن بمقدورها التواجد والتعايش في الفضاء الواقعي (المجموعات الدينية والجنسية والإيديولوجية...).

ومن التبعات المباشرة لهذه الوضعية بروز ثقافة جديدة من خلال بوابة الافتراضي، تنبني نسبيا على نسق الكراهية والعنف والأكسنوفوبيا والسلوكات الغرائبية. فالفضاء الرقمي يمكن أن يلعب دور قناة لانتشار الكراهية بين أطياف المجتمع بفعل إمكانية البوح والتعبير عن الآراء التي يتيحها، والتي لا يستطيع الفرد أن يعبر عنها في العالم الواقعي، مما يتحول أحيانا معه الحوار والتفاعل إلى بؤر للتوتر الرقمي والعصيان الافتراضي، حيث تسود حروب ذات طبيعة هوياتية.

ويبرز خطاب الحقد والكراهية مثلا عبر النعوت القدحية المتبادلة بين الأمازيغ والعرب، و«المناوشات» الدائرة بين مختلف الألتراس... وعلى الرغم من أن الفضاء الرقمي كسر الحواجز بين المركز والهامش، فإن هناك مشكلا كبيرا على أرض الواقع يتمثل في «مركزة الثقافة»، أدت إلى خلق مغربين، مغرب ثقافي ومغرب غير ثقافي.

فكيف نطالب بأن يكون هناك انتشار للقيم بشكل متساو في هذا الوضع المختل؟ بالموازاة مع هذا الوضع هناك حالة «إحباط واقعي» يصرف عبر الانخراط في الشبكات الافتراضية، وذلك لأن الشباب المغربي يعيش نوعا جديدا من الانتماء، حيث إننا نشهد ازدواجية هوياتية تم من خلالها تهميش الهويات الواقعية وتحميل هويات جديدة ذات طبيعة افتراضية، مما يعكس نوعا من «السكيزوفرينيا الاجتماعية» كتعبير عن الاغتراب والاحتباس القيمي وسط الشباب يتم التعايش معه عبر سلوك اتصالي لا يعدو أن يكون نوعا جديدا من الإدمان: الإدمان الإلكتروني.

*ألا ترون أن العالم الافتراضي صار أشبه بساحة مبارزة للهيمنة السياسية والاجتماعية تستغلها أطراف متنافرة لتصميم رأي عام على المقاس لتصفية الحسابات أو خدمة لمصالح معينة؟

**العالم الافتراضي كفضاء للتداول لا يمكن أن يسلم من التوظيف الممنهج لخدمة أهداف معينة قد تكون نبيلة أو على عكسها ذميمة، وهذا يتوقف على طبيعة الندية التي يرغب الفاعلون الافتراضيون بثها والتأسيس لها. فالمعلومة تصبح ذات قيمة ولو تم اكتشاف انها مزورة (Fake news)، فالهدف هو بناء الحدث والبوز وتوجيه الرأي العام من خلال صناعة تواصلية ترضخ لجدلية العرض والطلب في سوق رمزية تعتمد على التدبير الملائم والتوقيت الجيد لتنزيل المعلومة التي أضحت آلية وأداة ناجعة للوصول للأهداف المنشودة، وضبط إيقاعات الحياة الاجتماعية.

كما يتضح أنه من الضروري على الفاعل السياسي أن يستبق التفاعلات الافتراضية حول الراهن المغربي، لكي لا يصبح في حالة شرود في علاقته مع المواطنين الذين تحولوا من المواطنة الكلاسيكية (الواقعية) إلى المواطنة الجديدة (الافتراضية)، ويشتغل على منطقها ويغوص في آلياتها ويخبر تداعياتها ليتمكن من استشراف مآلاتها واقتراح وإقرار السياسات العمومية الملائمة للمرحلة.

تباعا لا يمكن تأكيد أو نفي مقولة أن العالم الافتراضي صار أشبه بساحة مبارزة للهيمنة السياسية والاجتماعية، تستغلها أطراف متنافرة لتصميم رأي عام على المقاس لتصفية الحسابات أو خدمة لمصالح معينة، أو أن  القرارات العمومية يمكن أن تتصاغر أو تضعف أو تستسلم أمام الاحتجاج الإلكتروني في الحالة المغربية، لأن هذا الرهان يرتبط بالسياقات المجتمعية والديناميات السياسية، وكذلك بالتعاقدات المؤسساتية فعلى سبيل المقارنة هناك عدة أحداث في بعض الدول مثل أمريكا، حيث تمكن الاحتجاج الرقمي من أن يؤثر على قرارات بعض المؤسسات (شركات طيران ومؤسسات الخدمات العمومية…).

من هذا المنطلق يمكن للقرارات العمومية في الحالة المغربية أن تستسلم وتتصاغر أمام العالم الافتراضي، إذا ما أصبح هذا الأخير يشكل خطرا وتهديدا على منظومة العيش المشترك ورهانات التماسك الاجتماعي.

*بعد انحسار أدوار اليسار واليمين والأغلبية والمعارضة.. هل يمكن أن تتشكل تمظهرات جديدة للفعل السياسي المغربي، وأي دور للشباب في توجيه اللعبة السياسية؟

**إذا سلمنا بانحسار وتراجع أدوار اليسار واليمين والأغلبية والمعارضة، يمكن أن تتشكل تمظهرات جديدة للفعل السياسي المغربي أساسها معارضة من خارج البنيات المنظمة، سواء كانت سياسية أو نقابية أو مدنية، وهي ذات طبيعة افتراضية، لا سيما أن الشباب من خلال سلوكاته السياسية الرقمية عبر ما يسمى بـ«الهاكتيفيزم» يضطلع ويتوق إلى توجيه اللعبة السياسية والتأثير فيها. يمكن في هذا الصدد الإحالة على وقع احتجاج الألتراس أو تداعيات حملة المقاطعة، أو تنوع الإنتاجات والإبداعات الخطابية والاحتجاجية من داخل السوق اللغوية الرقمية.

في هذا السياق،  يمكن قراءة ظاهرة الشعارات السياسية في الملاعب على أساس أنها تشكل تحولا في دور الشباب، باعتبار أن التنافس الرياضي  في ملاعب  كرة القدم أصبح «ذريعة» لخلق موقع جديد لتوجيه اللعبة السياسية. هذا التحول يسائل طبيعة ونوعية الاحتجاج الذي يظهر في الملاعب، وكيفية مقاربة هوية المحتجين الجدد (الألتراس)، مع الأخذ بعين الاعتبار الدينامية السياسية في المغرب  والمحددات الاجتماعية والثقافية، التي أدت إلى هذه الفاعلية الجديدة التي برزت داخل ملاعب كرة القدم، وفهم مضمونها في سياق المواطنة الافتراضية الجديدة.

فالفرضية الأساسية للجواب على هذا التساؤل، تقوم على أن الفعل السياسي لم يعد مرتبطا بموقع معين أو بهيئة أو بنية بعينها، وأن المطالب يتم التعبير عنها عبر فاعلية تشاركية افتراضية، وترجمتها في مواقع رياضية ليتم تملكها وتصريفها كفضاءات عمومية لتوجيه اللعبة السياسية داخل الوطن وخارجه. فبعد شهر مارس 2018، صارت الشعارات خطابية ومغناة ومكتوبة متضمنة لمنسوب عال من الاحتجاج والمطالبة الاجتماعية والسياسية (فبلادي ظلموني – الشعب مضيوم ...)، لتحسين أوضاع الشباب المغربي.

لهذا تحيل الكلمات والتعابير والشعارات في إطار التحدي الإيجابي Challenge)) على حقول دلالية ترافعية من قبيل المظلومية والحكرة «الشعب مضيوم الشعب محكور كيفكر فالبابور» والممانعة «المعيشة أون فاير»… ومع تراجع الوساطة المدنية والسياسية، أضحت الملاعب تشكل تعويضا لمواقع الاحتجاج الكلاسيكية، بل مواقع للتنشئة السياسية الفردية والجماعية. وهذه التنشئة تستند على المطالبة والترافع على مجموعة من القيم المادية وغير المادية، مثل الصحة والتشغيل والتعليم والكرامة والمساواة ومستوى المعيشة (الشعب مقهور والتعليم راجع اللور.. الشعب مهموم)، ولكن أيضا على نقد مرير وسخرية لاذعة من السياسات العمومية مدعوم بعبقرية جماعية شبابية (في القبة التكركير وفي المقرر البغرير).

وبالنظر إلى أن عدد المنخرطين  في بعض مجموعات الالتراس يفوق المليون منخرط، وهم كذلك في اتصال مستمر وتعبئة متواصلة عبر يقظة افتراضية وتفاعل جماعي، هل هذا الجمهور الافتراضي سينتقل إلى النسخة الواقعية ويحتج في الفضاء الواقعي، باعتبار أن منسوب الوعي السياسي لدى الألتراس قد يمكنهم من التنظيم والتحرك خارج أسوار الملاعب الرياضية؟

*من أبرز التحولات التي يعرفها المجتمع المغربي ارتباك بعض المؤسسات والبنيات المجتمعية وتغير أو تراجع وظائفها: هناك تراجع دور الأسرة في التنشئة الاجتماعية، وافتقاد النجاعة التعليمية في المدرسة وانتقال دور المعارضة من يد الفاعل السياسي إلى يد الماسك بفأرة الحاسوب. كيف تفسرون هذا التراجع الوظيفي مقابل ظهور فاعلين جدد؟  

**يعود تراجع  وارتباك بعض المؤسسات والبنيات المجتمعية وتغير وظائفها لصالح الماسك بفأرة الحاسوب إلى ظهور فاعلين جدد، يمكن أن نطلق عليهم «المؤثرون الجدد». يمكن فهم فاعلية هذه الفئة من المؤثرين أو قادة الرأي على كون الجيل المتلقي للمعلومة هو جيل متصل يتوق إلى المعلومة السريعة التي تصاغ في نصوص قصيرة تؤثتها صور وفيديوهات يصير معها الخبر والمعلومة المتعددة الوسائط ذات جاذبية وأكثر قابلية للدفاع عنها والمرافعة عنها ونشرها وتشاركها.

في هذا السياق، تصبح البنيات المجتمعية مثل الأسرة والمدرسة والحزب متجاوزة ولا تستجيب لطبيعة التنشئة الافتراضية التي نهل منها جيل الأطفال والمراهقين والشباب، بل أضحت تحفا وآثارا تحيل على فترة تاريخية خلت وتحركاتها الراهنة، تشكل بالنسبة لجيل الشبكات الاجتماعية بنيات «أناكرونية»، خارج العهد الرقمي.

كما أن التحول الحاصل في التمثلات الثقافية والاجتماعية تجاه السلطة، يستحسن ربطه بالملامح السوسيوديموغرافية والثقافية والنفسية والسياسية للشباب، في علاقتها بالوضع السوسيو اقتصادي وقيم التعبير عن الذات ومشاعر الحرمان النسبي في أوساط المحتجين. لذا فأهمية هذا التحول تكمن في فحوى طبيعة السلوك الاحتجاجي، الذي انتقل في الحالة المغربية من سلوك «حربي» وعدائي إلى سلوك «سلمي» وحضاري، يتحدى السلطة من خلال إبداع أشكال احتجاجية ترافعية يخطط لها، ويتم تحضيرها وتشاركها وإعلانها من خلال بوابة الافتراضي.

*على مستوى الرقي بوضع المرأة في مجالي المساواة ومواجهة العنف والتمييز، ثمة تقدم ملموس على مستوى الخطاب وأيضا في عمل المؤسسات الحكومية، لكن ذلك ليس له صدى مؤثر في المجتمع؟

**فيما يتعلق بمستوى الرقي بوضع المرأة في مجالي المساواة ومواجهة العنف والتمييز، نعم هناك تقدم ملموس على مستوى الخطاب، وأيضا في عمل المؤسسات الحكومية، لكن ذلك ليس له صدى مؤثر في المجتمع مما يحيلنا على إشكال تضخم الخطابات حول وضعية المرأة بموازاة حقوقها داخل المجتمع. فالملاحظ من خلال عدة حقول (الشغل – الصحة – الأمية – التعليم) أن جميع المؤشرات والإحصائيات تفضي إلى استنتاج واحد هو أن المرأة إلى جانب شريحة الشباب تعيش وضعية تمييز سلبي بيد أن جميع النصوص الدستورية والمؤسساتية تهدف إلى خلق وإبداع تمييز ايجابي لصالحها على الطريقة المغربية.

كما أنه في وقت تؤكد مختلف الدراسات، بما فيها تلك الصادرة عن المؤسسات الحكومية، ارتفاع نسبة العنف الجسدي والاقتصادي والنفسي والاجتماعي والثقافي الممارس ضد المرأة المغربية، هناك كذلك عنف جديد يمارس على المرأة، ويتعلق بالعنف في العالم الافتراضي. فالعنف الممارس ضد المرأة في العالم الافتراضي هو تكريس للعنف الممارس ضدها في العالم الواقعي، حيث يتم إسقاط المقولات المتداولة في العالم الواقعي على تفاعلات العالم الافتراضي؛ «وفي المحصلة فإن مكونات خطاب العنف اللفظي ضد المرأة في العالم الافتراضي مكتسبة من الوسط الاجتماعي.

كما تبرزه بعض التفاعلات حول بعض المبادرات النسائية (مثال مبادرة الصفارة). فالخلفية الثقافية للعنف اللفظي ضد النساء في الفضاء الافتراضي المغربي، ترتكز على عدة أسباب منها لا للحصر التطرف القيمي المؤسس على منظومة اختزالية تختزل صورة المرأة في إطار نمطي معين، وتعميم هذا التصور كآلية لانتشار وإعادة انتشار خطاب الكراهية.

أما وقود نشر هذه الكراهية إزاء المرأة، فيتم باستعمال خطاب غرائزي وقدحي يتم باللغة العامية («كوفرا» ...)، مما ينتج عنه تراجع مقومات العيش المشترك، وتصلب التمثلات الاجتماعية، إضافة إلى تجذر فوبيا المساواة بين الجنسين في المجتمع، وعدم استيعاب مسارات المواطنة العادلة.

*أستاذ العلوم الاجتماعية