الكتاب

#ملحوظات_لغزيوي: شارلي…وتستمر الجريمة !

المختار لغزيوي الأربعاء 09 يناير 2019
Capture d’écran 2019-01-09 à 11.06.13
Capture d’écran 2019-01-09 à 11.06.13

AHDATH.INFO

كم مر من الوقت على مذبحة شارلي إيبدو الرهيبة؟

مرت يوم الإثنين الماضي بالتحديد أربع سنوات كاملة. في لحظة من لحظات يناير من سنة 2015 قرر الجهل أن يتخلص من مجموعة من ألمع رسامي الكاريكاتير الفرنسيين، والعالميين أيضا، بقتلهم والانتهاء من ضجيج ريشاتهم.

اعتبر الجهل أنه سينتصر إن قتل رسامين لا سلاح لديهم إلا الريشة أو القلم أو "الطابليت" التي يقدمون بها تصوراتهم للحياة، فلجأ إلى الكلاشنيكوف ومر وهو يصرخ بكل ظلم وتجن "الله أكبر" إلى الفعل وقتل من قتل.

غاب شارب اللامع، وغاب كابو الألمع، وغاب الآخرون، أولئك الذين كانوا يجتمعون حول تلك الطاولة التي ستصلح قبرا لهم في نهاية المطاف، لكي يتناقشوا قبل إطلاق كل عدد أسبوعي حول أكثر المواضيع إيلاما في المجتمع الفرنسي والمجتمع الإنساني كافة، لكي يتناولوها بنقدهم اللاذع، بريشاتهم الساخرة، وبقدرتهم الأخاذة على النيل من الأمية ومن الجهل ومن كل أنواع الظلام.

لم يكن ممكنا لهم في زمن مثل زمننا هذا أن يستمروا. الغلبة اليوم للصوت الجاهل، وقلة فقط تمتلك قليل رحابة وبعضا من الموهبة التي كانت لهم والتي كانت تجعلهم يسخرون من العالم رغم الحزن ورغم الآلام، لكي تسمح لهم بالبقاء أحياء، بل لكي تعتبر بقاءهم معنا هدية فعلية من القدر ومن الحياة.

اليوم وقد مرت أربع سنوات بالكامل واجب علينا أن نتذكرهم، لأنهم لم يموتوا في حرب متكافئة، ولا هاجموا بلادا، ولا طغوا على أحد. كانوا يرسمون فقط. ويوم قتلوا وكتبنا نقول "كلنا شارلي"، خرج لنا من عدم العدم الصوت إياه لكي يقول لنا "ولماذا لا تقولون كلنا التشاد وكلنا جيبوتي وكلنا لا أعرف ماذا؟"

شرحنا بالخشيبات وبنية حسنة نراها الآن غبية للمتصيدين الأعذار للإرهاب، الباحثين عن التبريرات للقتل أن الأمر مختلف وأنه هذه المرة يتعلق برسامين عزل أبرياء لا يملكون إلا ريشاتهم لمواجهة العالم كله

لم يسمع أحد الكلام. دفن الرسامون الذين قتلوا ودفن معهم الضحايا الأبرياء الذين سقطوا ذلك اليوم الحزين، وانتهت الحكاية، أو ليس تماما، لأن هاته الحكاية الكئيبة لا تريد الانتهاء…

اليوم وكلما سقط بريء جديد في سنة 2019 إلا وتذكر من بكوا ذلك اليوم الكلام الذي كان يقال عن استحقاق رسامي شارلي القتل لأنهم لم يقفوا عند حدود.

ترتعش القشعريرة وهي تسمع هذا الكلام في مسام الإنسان السوي، ثم نتذكر أن هناك منا من اعتبر قتل سائحتين أجنبيتين منحتا الأمان كله للبلد أمرا عاديا ومقبولا. ونتذكر أن هناك منا من يسجل الفيديوهات يوميا لكي يسب الناس ويكفرهم ويخرجهم من الملة ويطال ب"الجهاد" الكاذب في حقهم. بل ونتذكر أن منا من قتل منذ عشرين سنة ويزيد ويملك اليوم كل وقاحة الكون لكي يقول "أنا بريء سيدي القاضي، أنا بريء"، ونتذكر عديد الفظاعات، ونتذكر أننا لازلنا في الجب إياها لا نريد مغادرته، ولا نقوى على الإفلات..

الجمعة الفارطة سألتني مذيعة "بي بي سي عربية" رشا قنديل عن العلاقة بين تصور معين للدين وبين الإرهاب، وهل هو ثابت أم هي فقط "عمايل هؤلاء العلمانيين الملاعين الذين يريدون إلصاق كل شرور الأرض بالإسلاميين الظرفاء اللطفاء؟"

أجبتها بالوضوح الذي أؤمن به منذ الوهلة الأولى أن الإسلام بريء تمام البراءة، لكن بعض المسلمين متورطون حتى أعلى رأسهم، ومن أخمص القدمين فيما يقع، وأن اللوم كل اللوم يقع على قراءة معينة للدين توقف بها الزمن عند لحظة جاهلية لم تعد تصلح لزمننا هذا، وأن الاختيار هو (بسيط للغاية) بين تنقيح نصوصنا التراثية وملاءمتها مع الوقت الحالي لكي ندخل نادي البلدان المتحضرة، أو البقاء على قارعة الحضارة والعودة إلى جاهليتنا والسلام".

الاختيار ليس صعبا إطلاقا. الاختيار فادح وفاضح في بساطته، واللعب على كل الحبال أمر لم يعد قادرا على أن يذهب بنا اليوم إلى أي مكان. هو فقط يضيع المزيد من الوقت في السجالات العقيمة والحمقاء، ويمنح كل مرة العالم الآخر الدليل الذي لم يعد يحتاجه أحد أن هذا المكان يفلح في تصدير الإجرام والجهل باسم الدين لا أقل ولا أكثر..

هل يمر هذا الكلام بسهولة إلى المجتمع؟

قطعا لا. لكن منذ متى كان الكلام الصائب البديهي، البسيط القادر على إقناع ذوي العقول السليمة قادرا على المرور بسلاسة إلى الجموع؟

هي معركة صعبة للغاية، وشاقة للغاية، الهدف الأساسي منها العثور على المفتاح أو المفاتيح التي يمكنها أن تفتح عقول الناس هنا، أن تشرع كوة في الأذهان، أن تسمح لتيارات الانفتاح والشك والتفكير والتأمل والنقاش أن تلج الأمخاخ الموصدة، وأن نبدأ بعدها بشكل آخر وجديد في تناول كل قضايانا وفي الحديث عن كل همومنا، وفي مناقشة كل ما يعني لنا شيئا في هاته الحياة .

طبعا هناك من لايرغب في هذا النقاش، من يهرب منه إلى النقاشات الأخرى السهلة، المقدور عليها، التي لا تكلف صاحبها شيئا، بل التي تدر ربما أرباحا معفاة من الضرائب ودخلا صافيا لا ينقطع أبدا من ثناء الجموع..

هؤلاء هم أيضا جزء أساسي من عملية القتل الجماعي التي نتعرض لها. هؤلاء أيضا وإن كانوا لايحملون رشاشات، ولا يملكون شجاعة الإقدام على الإرهاب الأحمق ماديا إلا أنهم خزان فكري يصلح عنوان جبن نخبة تعتقد أنها ستكون نخبة فقط بتفادي النقاشات التي تمس فعلا مايقع في الأراضي التي تعيش فيها.

هذا على افتراض أنهاتعيش حقا، وهذا على افتراض أنها تعرف معنى الحياة..

رحم الله رسامي شارلي المبدعين. وقاتل الله الجهل والجهلاء..