الكتاب

#ملحوظات_لغزيوي: مشاهدات برلينية !

المختار لغزيوي الاثنين 21 يناير 2019
bundestag-berlin-102~_v-img__16__9__xl_-d31c35f8186ebeb80b0cd843a7c267a0e0c81647
bundestag-berlin-102~_v-img__16__9__xl_-d31c35f8186ebeb80b0cd843a7c267a0e0c81647

AHDATH.INFO

يصعب عليك فعلا وأنت تعبر برلين أن تقتنع أن هذه المدينة تعرضت لدمار شامل في لحظة من لحظات التاريخ الإنساني المجنون، وأنها استطاعت أن تسمو فوق هذا الدمار لكي تصنع لنفسها اليوم الحالة التي هي عليها

يصعب عليك وأنت ترى التنظيم "المبالغ فيه" لكل شيء ألا تقر في أعماقك أن الحرب في نهاية المطاف ورغم أنها كتبت فصلا دمويا قاتلا لم ينسه أهل المدينة حتى اليوم، إلا أنها حركت فيهم هاته الرغبة الكبرى في الحياة، وأفهمتهم - على اختلاف أجيالهم - أن العمل لأجل العيش أفضل وأهم وأثمن بكثير من العمل الغبي لأجل الموت

المعرض الأخضر لبرلين كان فرصة لزيارة هاته المدينة، وكان لحظة التقاء مع عد كبير من العاملين في مجال الفلاحة ومختلف حرفها القادمين من أكثر من ستين بلدا، والحريصين على تقديم ماتستطيع بلدانهم إنتاجه من خيرات الأرض

مكانة المغرب في هذا المعرض الدولي الكبير مكانة جد محترمة، تظهر لك بمجرد الإطلالة على الرواق المغربي الذي افتتحه وزير الفلاحة والصيد البحري عزيز أخنوش الجمعة، والذي يحظى بإقبال كبير من طرف الزائرين الراغبين دوما وأبدا في معانقة سحر المنتوج القادم من هاته الأرض التي ظلت دائما تعطي للفلاحة قيمتها، وظلت تعول عليها كمصدر رزق لعدد كبير من المغاربة

نقاش الفلاحة الصناعية كان حاضرا في المعرض بقوة، ونقاش المنتوج الذي تقترحه الزراعة على الناس ظل الشغل الشاغل للفاعلين الأساسيين في الحدث، خصوصا وقد أصر المزارعون الألمان على التظاهر السبت في شوارع المدينة قبل الوصول إلى المعرض دفاعا عن الفلاحة الطبيعية مثلما يسمونها وتنديدا بتدخل الصناعة السافر في المجال.

مظاهرة اختارت شكلا حضاريا جد متميز من خلال التجول في كل الشوارع البرلينية بالجرارات وعتاد الفلاحة، وإطلاق منبهات  العربات دون المساس بأمن، ودون أي شغب أو تكسير، ومع حراسة أمنية مكثفة رافقت المظاهرة من بدئها حتى المتم، دليلا على أنه من الممكن إيصال كل المطالب المعقولة بأكثر الطرق تحضرا دون الوقوع في أي محظور من الذي يؤثر سلبيا على الناس وعلى حياة الناس.

الأجمل في الحكاية هو أن المتظاهرين وبعد أن انتهوا من مظاهرتهم دلفوا إلى المعرض واستمتعوا بالخيرات المعروضة فيه،  وشاركوا في فعالياته لأنهم مقتنعون بالإضافة التي يقدمها لمهنتهم، ومقتنعون بأهمية انعقاده كل سنة في بلادهم، ومستوعبون لمعنى هذا الانعقاد وللصدى العالمي الذي يخلفه حدث مثل هذا

الفصل هنا واضح في الأذهان بين المختلف عليه من الذي يقع باستمرار في كل مجالات الحياة، وبين المتفق عليه المندرج ضمن المصلحة العامة للناس، لذلك يحرص الكل على الالتزام بهذا الفصل وعلى العمل لأجل تكريسه وتطويره لما فيه مصلحة البلاد والعباد، مع هاجس لايفارق عقول الناس هنا وتنقله الأجيال القديمة إلى الجيل الجديد هو هاجس عدم تكرار الفصل الكئيب للحرب، وعدم الوقوع مجددا في شراك التقسيم أو العنصرية أو ماشابه

وحتى تلك الحركات التي يقال إن لها الكلمة الفصل الآن، والتي يصوت لها الناس في ألمانيا وغير ألمانيا لأنها تمنح أكثرهم ضعفا الإحساس بالأمان من خلال تقوقعها على ذاتها، تجد مشكلة حقيقية في العثور عليها على أرض الواقع طالما أن اختلاف الأجناس العاملة هنا وقدرة كل هاته الأجناس على الانصهار مع بعضها البعض مسألة واضحة للغاية، وهي تتردد على لسان كل الأجانب الذين يشتغلون في برلين وتؤكد ألا مجال إطلاقا للسماح للانغلاق بأن يعم هذا المكان المنفتح حد الرحابة الكبرى

رحابة تكرس نفسها في القدرة على تنظيم الوقت يوميا بين العمل كثيرا وبين الاستمتاع كثيرا، وهي مسألة يقدرها أهل برلين ويعرفون قيمتها ويحرصون عليها، لذلك تجدهم يسارعون فور الانتهاء من أشغالهم إلى الإقبال على كل علامات الحياة من مسارح وأوبرا وسينما ورياضة ومحلات رقص وأماكن سهر، وبقية علامات الرغبة في العيش بشغف، وعلامات  الاقتناع بأن الحياة مؤسسة هكذا على حكاية التوازن هاته بين الواجب وبين المتعة مما يفهمه أهل المدن التي عاشت تاريخا قاسيا مثل تاريخ هاته المدينة

تاريخ تجده حاضرا في كل مكان، وتجد فور القيام بجولة صغيرة هناك كل المعلومات عنه مقدمة بكل اللغات، وبثمن في المتناول لأن الهدف هو حكي القصة من بدئها وحتى الآن للقادمين الجدد.

لذلك يحضر الجدار إياه الذي كان يفصل في السابق بين البرلينين الشرقية والغربية، وتحضر صور الحرب، ويحضر تاريخ البلاد ممثلا في تماثيل تملأ المكان، وتحضر كل لقطات التاريخ الأخرى التي أسست المكان، والتي صنعت من المكان ماهو عليه اليوم

وحتى عند السؤال على مايشكل جرحا غائرا هنا أي عن النازية وأيام هتلر وبقية الفظاعات، تحضر ابتسامة الترحيب والتفهم ويحضر معها جواب الحكي بالتفاصيل ثم التأكيد على أن تلك اللحظة التي عبرت لن تتكرر أبدا، وأنها هناك في مكان قصي من الذاكرة ومن الوجدان درسا قاسيا وكفى، أما الأهم فهو الاشتغال على المستقبل، وهو الانخراط في البحث للناس عن أفضل مسببات العيش الرغيد، والانتقال بهم ومعهم من زمن إلى أزمنة أخرى قادمة

في النهاية وأنت تعبر هاته العاصمة الخاصة من نوعها بكل حمولتها التاريخية والحضارية والسياسية والفنية والإنسانية، تستشعر قيمة الاستفادة من حكايات الماضي كلها وتقول لنفسك على سبيل المواساة إن الشعوب التي تعرف تاريخها وتستفيد من أخطاء ماضيها هي الشعوب القادرة على اقتحام المستقبل. العالقون في الحكايات السالفة، الذين لا يتمكنون إلى اليوم من النظر إلى الأمام عوض التحديق مليا في الخلف سيظلون هناك…في الوراء طبعا إلى أن يتمكنوا من الانعتاق والتحليق بأجنحة الوقت الحالية إلى الأمام