ثقافة وفن

الجزائر والسودان: الجيش والشعب وأشياء أخرى !

المختار لغزيوي الثلاثاء 28 مايو 2019
_105763840_c109ddaa-5f36-4ec3-a2c1-f48e6bc166fa
_105763840_c109ddaa-5f36-4ec3-a2c1-f48e6bc166fa

AHDATH.INFO

إلى حدود يوم الأحد الفارط لم يتقدم أحد لانتخابات الرئاسة في الجزائر. كل الفاعلين السياسيين والحزبيين هناك يعرفون أن الحكاية كلها تشبه مقلبا من مقالب الكاميرا الخفية المفبركة. النص مكتوب سلفا، المقلب متفق عليه بين مختلف الأطراف المشاركة فيه، والنهاية تتشابه كل يوم وكل حلقة ولا تحمل جديدا يذكر للمشاهدين، اللهم عبارات التقزز عقب كل بث وألفاظ التشكي من انعدام الذكاء في كتابة السيناريوهات، وعدم القدرة على تقديم الجديد إطلاقا.

الذين كانوا متأكدين أن المشكل في الجزائر ليس هو عبد العزيز بوتفليقة كانوا يقولون ذلك من موقع العارفين بما يجري داخل المرادية ومحيطها. الرجل أصلا كان مريضا ومشلولا منذ سنوات عديدة، وكان غير قادر على ممارسة أعباء الحكم، لذلك كان إخوته بالإضافة إلى القايد صالح والبقية يحكمون عوضا عنه

اليوم بوتفليقة ذهب لحال سبيله، أو هذا على الأقل مايقال، وإخوته يوجدون رهن الإقامة الجبرية، أو هذا مرة أخرى على الأقل مايقال، أما القايد صالح فقد بقي، وهو الآن يجرب الوصفة الشهيرة لتدخل الجيش في آخر لحظة إلى جانب الشعب لكي يقول للناس "فهمتكم"، أو لكي يقول لهم "فاتكم القطار" بطريقة أخرى أو لكي يغني عليهم أغنية "زنقة زنقة" بطريقة ثالثة، أو لكي يجرب فيهم السيناريو العجيب الذي تم تجريبه دائما والذي لم ينجح دائما إلا في تأجيل حل الإشكال مدة إضافية من الزمن

في السودان يقع تقريبا نفس الأمر مع اختلاف تفرضه الخصوصيات التابعة لكل بلد. قيادة الجيش هناك حيث المعتصمون، وساحة البريد في الجزائر التي منع عنها التظاهر الجمعة الأخيرة. جيش يساند الثورة هناك، وجيش يقول إنه يريد أن يحارب العصابات هنا، وفي البلدين معا شباب يقفون في الساحات يقولون في الجزائر "تتنحاو كاع"، ويقولون في السودان "تسقط وبس أنت ونظامك"، ويطالبون بها مدنية لا تقبل أن يكون للعسكر أي دور سياسي، وأن يقتصر الجيش على مهمته الأكثر تقديسا: حماية الحدود والبقاء تابعا لكل الوطن، وليس لطائفة واحدة من طوائف الوطن.

في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، حين كانت هاته الثورات تلهم بعضها بعضا، وكان الناس يعتقدون أن الضباط الخارجين من ثكناتهم سيحققون الرفاهية والازدهار لأوطانهم، وسيقودون بالشعارات التي يحملونها هذه البلدان نحو مصاف الدول المتطورة، لم يكن أحد يظن أن هؤلاء العسكر سيأتون لكي يبقوا خالدين على رأس هاته البلدان.

أغلبيتهم وهي تنتهي من النظام الذي سبقها كانت تقول إنها تريد تحرير الناس. ولا أحد منهم قال إنه يريد امتلاك الناس وتمرير هؤلاء الناس بعده إلى أنجاله وإخوانه وشلته وبقية العائلة.

اليوم هاته البلدان التي جربت هاته الانقلابات لازالت غير قادرة على الخروج من شرنقتها. هي لا تتصور العيش دون  هاته الدوامة التي دخلتها منذ تلك السنوات، وحتى أجيالها الجديدة التي تخرج لكي تتغنى في الساحات بشعارات الأنترنيت والحرية والتخلص من الماضي السحيق لا تمتلك تصورا واضحا عن هذا الغد بعيدا عن أيدي هؤلاء العسكر

لا تتصور ذلك، أو لاتريد أن تتصوره، لأن الشبح القائم أمام أنظار الجميع يهدد في حالة سلامة المجتمع من العسكرة أن يسقط في يد الخونجة، والمصيران معا لايبشران بخير، ولا يعطيان هاته المجتمعات آمالا  كبرى لرؤية أيام أفضل في القادمات من الأوقات

ما العمل إذن؟

الثورات الحالمة أمر طيب للغاية، الشعارات التي ترفع فجأة في الشوارع والساحات أمر أطيب، متابعتها عبر شاشات التلفزيونات والتحمس لها مسألة في غاية اللطف والحنان، لكن التوفر على برنامج سياسي حقيقي غير مبني على الشعارات (لاشعارات الدين ولا شعارات العسكرة والتجييش) هو الحل الفعلي لمشاكل بلداننا، ثم القطع مع مرحلة قديمة أثرت فينا جميعا بشكل أو بآخر، والبدء فعلا في التفكير بعقلية المستقبل لا عقلية الحاضر وطبعا مع نسيان عقلية الماضي تماما لأنها هي التي أوصلت الناس إلى ماهم عليه وفيه اليوم، هو السبيل الأوحد والأفضل للمرور إلى الأهم: الشروع ذات هينهة في بناء الإنسان بناءا سويا ومستقيما، لا هذا البناء الأعوج الذي خلف لنا كل هاته العاهات الجماعية التي نعاني جميعا من أعراضها، ونحس جميعا بآلامها، ورغم ذلك نمثل دور الأصحاء الأقوياء الذين لا يعانون من شيء، وبكل بلاهة الكون…يبتسمون.

في يوم من الأيام، ستستفيق هاته الأمكنة من رقدة الموت هاته. نأمل ونتمنى ألا يكون هذا الاستيقاظ بعد فوات كل أوان...