ثقافة وفن

دافقير: العلم والخرافة.. والفشل الممنوع

أحمد بلحميدي الثلاثاء 21 أبريل 2020
دافقير
دافقير

AHDATH.INFO

سنة 2005 حين دمرت أمواج تسونامي إندونيسيا وتايلاند والهند وسريلانكا والمالديف وخلفت أكثر من 230 ألف قتيل ونحو مليوني مشرد، ذهب البعض إلى أنه كان «عقابا إلاهيا» على انتشار السياحة الجنسية واستغلال الأطفال في آسيا. وأكاد  أسمع هذه الأيام، من سائقي سيارات الأجرة الذي أركب معهم وزبناءهم وبعض الأصدقاء المحبطين، نفس الأسطوانة: فيروس كورونا هو «تنبيه رباني أمام نتشار الظلم والفساد»

لم تتحقق نبوءة مفكري وفلاسفة القرن التاسع عشر، لقد توقعوا أن ينتصر العلم في قرننا العشرين، وكانت إحدى يقينياتهم المطلقة تقريبا، أن انتصار العلم سيقود إلى انقراض الخرافة أمام التجربة العلمية، وأيضا نهاية الأوبئة، تلك التي شكلت آخر تحديات الطبيعة في وجه البشرية. وقد التقط المفكر والفيلسوف الأمريكي فرانسيس فوكوياما هذه الفكرة ليجعلها إحدى الحيثيات التي بنى عليها أطروحته حول نهاية التاريخ.

لكن، وكما لم ينته التاريخ، واضطر فوكوياما لمراجعة أطروحته حول مركزية الليبرالية والولايات المتحدة الأمريكية، لم ينتصر العلم أيضا، لقد شكلت فيروسات «سارس» و«إيبولا» وغيرها أولي مناوشات الطبيعة في استعادة قوتها أمام بشرية انتهكت عرضها عبر الإحتباس الحراري. وهاهو وباء كورونا يبلغ ذروته في تحدي العلم، إنها المرة الأولى التي يعجز فيها الإنسان المعاصر عن إيجاد علاج لفيروس عمر أكثر من خمسة أشهر ومايزال قادرا على العيش بيننا.

ليست كورونا وحدها هي ما هزم العقل البشري وعلمه، وتوقعات المفكرين والفلاسفة بأن يكون القرن العشرين قرن الديمقراطية، لقد أدت نجاحات الديمقراطية وإحباطاتها أيضا، إلى صعود متنام لتيارات سياسية غير ديمقراطية، وكما كان هتلر زعيم النظام النازي هزيمة مدوية للقيم الديمقراطية في القرن الماضي، ها نحن نرى نفس الهزيمة يعاد إنتاجها اليوم مع التيارات الدينية، والقوى اليمينية المتطرفة، والنزعات الشعبوية غير البناءة، إن جورج بوش الإبن ودونالد ترامب حين يقولان إن أمريكا أمة اختارها الله، لا يختلفان في شيء ، غير الأسلوب، عن هتلر الذي جعل من العرق الآري الجرماني أعظم مخلوقات الأرض.

وكأن البشرية التي اعتقدت أنها تطوي مسافات التاريخ تحت أقدامها متقدمة إلى الأمام، تعود القهقرى إلى الوراء، لم يؤد تطور التشريعات الدولية وفلسفة السلم إلى إيقاف الحروب، ولم يؤدي العقل إلى هزيمة الغيبيات، ولم ينجح العلم في التغلب على الأوبئة … كل نجاحاتنا السابقة تتحول اليوم إلى هزائم، وكأن نعم الإنسانية تنقلب عليها إلى نقمة لعينة …

لم يسبق لنا أن سمعنا القرآن يقرأ في الكونغريس الأمريكي، ولم نر قبلا رئيسا أمريكيا يدعو مواطنيه الأكثر علمانية إلى الصلاة طلبا لرحمة الرب وعونه في معركة البشرية ضد الوباء، ثم شاهدنا كيف جعل البعض من كورونا «جندا من جنود الله»،وحين اضطرت بلدان إسلامية إلى إغلاق المساجد قال البعض لقد أغلقنا ملاذنا الأخير في التضرع إلى الله بحثا عن النصر، ورأينا من عاد إلى الأعشاب والغيبيات لطرح وصفات للعلاج، والذين لم يقربوا الصلاة يوما، هاهم ينتظمون في صلواتهم الخمس، ليس لأن الصلاة، بالنسبة إليهم نفسيا، ركن إجباري في الإسلام، ولكن لأنها متنفس روحي في وجه الرعب والخوف من الموت …

ومن الواضح أنه كلما تأخر العلم في محاصرة الوباء وإيجاد لقاح له، وكلما ازداد عدد القتلى وتوسعت رقعة الإنتشار، كلما ارتفع منسوب التفسيرات الغيبية، وكلما وجدت القوى الدينية والجماعات السياسية العرقية البيئة الحاضنة لنشر الخرافة والتحليلات ما فوق طبيعية وما فوق عقلية، إننا في الواقع أمام سوق مزدهرة لانتعاش وسطوة الثقافة والمعتقدات السياسية التقليدية، فكلما شعر الإنسان بأنه أعزل أمام الطبيعة كلما لجأ إلى ما هو أكثر قوة منها : عالم الغيب والخرافة.

إننا نسير تدريجيا نحو ورطة «نهاية العالم» بعد أن كنا نتقاتل حتى لا تنجح نجاح أطروحة «نهاية التاريخ»، وليس من الترف في التفكير القول أنه من مصلحة الإنسانية سياسيا أن يتوصل العلم سريعا الى لقاح ولا ينهزم في معركته ضد الفيروس، إن هذه الهزيمة،إن حدثت، ستكون مدوية لأنها ستفتح الباب على مصراعيه أمام صعود قوى وأنظمة سياسية تقوم على الخرافة والغيبيات. فعبارات من قبيل قرب نهاية العالم والعقاب الإلاهي، وما يتردد في الثقافة الشعبية بشأن علامات الساعة الكبرى والصغرى ... هي كلها مؤشرات عقليات قيد التشكل متربصة بهزيمة العلم وصعود قوى الخرافة لحكم عالم صار يخضع لكل شيء إلا العقل كقيمة علمية وفلسفية.