السياسة

السياسة الجنائية.. كثبان رمل متحركة

دافقير يونس الأربعاء 27 مايو 2020
RAFIK
RAFIK

AHDATH.INFO

السياسة الجنائية للدولة جديرة بالاهتمام هذه الأيام، الوقائع الجديدة وتدبيرها القانوني فيها جزئيات تستحق التوقف عندها، لأننا نجد مقاربات حقوقية ليبرالية، وفي مقابلها مقاربات أخرى أصولية محافظة، بل ويتم الجمع بينهما بشكل يدفع إلى تتبع مدى القدرة على التعايش بينهما.

الجمعة (22 ماي) كان مهما للغاية بغض النظر عن باقي التفاصيل غير المفيدة فيما نحن بصدده، القضاء يقبل شكاية مثلي جنسي يزعم فيها تعرضه للاعتداء، المعني بالأمر يعترف بأنه مثلي الجنس، ومع ذلك لم يتم اعتقاله بمقتضيات القانون الجنائي. هذا تقدم مهم للغاية في تدبير مطالب الأقليات والحريات الفردية الأكثر تطرفا.

الأكثر من ذلك، القضاء يوفر الحماية للمثلي، وعكس ما طالب به أحد المحامين الذي استغرب قبول شكاية المتضرر، أخذت المسطرة القضائية مسارها، والمناضلون الحقوقيون الأكثر أورثودوكسية، تفاعلوا مع المبادرة، وطالبو بتوفير الحماية القانونية للمثلي وتمتيعه بالحق في المحاكمة العادلة.

هذه ليست المرة الأولى، كلنا يتذكر حالات أخرى للاعتداء على المثليين، في مراكش تدخلت الإدارة العامة للأمن الوطني لمعاقبة عناصر أمنية عرضت حياة مثلي جنسيا للخطر، وفي حالات أخرى وقعت اعتقالات ومتابعات لأشخصا اعتدوا جسديا على ذوي الميولات الجنسية المثلية.

الدولة هنا تنتصر للقانون وتوفر الحماية للمواطنين على قدم المساواة أيا كانت ميولاتهم الجنسية، ولو ترك الأمر بيد المجتمع لخضعنا لنظريات «قوم لوط»، وكما ذهب إلى ذلك أحد المحامين الأصولين سيكون الاغتصاب والاعتداء على هذه الفئة مباحا بمرر «محاربة الرذيلة».

المهم هنا هو أن الدولة تمارس نوعا من العلمانية غير المصرح بها، وهي تخضع لميزان القوى المجتمعي وتأخذه بعين الاعتبار، إنها لا تعترف صراحة بحقوق المثليين، وفي نفس الوقت لا تضطهدهم إلا في حالات ناذرة سرعان ما يتم تصحيحها، وهي إن لم تذهب إلى حد الاعتراف بالمواثيق الدولية في المجال، إلا أنها تمارس عمليا ما يفترض أن تصرح به رسميا.

ولكن هذه الدولة نفسها هي التي ستعتمد سياسة جنائية متشددة في مجال آخر، قضية الممثل رفيق بوبكر تتعلق بإطلاق الكلام على عواهنه في حالة سكر، لكنه سقط في تهمة الإساءة للدين الإسلامي والمساس بوقار العبادات، وهي جريمة منصوص على عقوبتها في القانون الجنائي، وهنا لم تعتمد السياسة الجنائية على التسامح وغض الطرف، بل ذهبت إلى الأقصى وسارعت إلى توقيف المعني بالأمر وإيداعه رهن تدابير الحراسة النظرية.

الدولة في المغرب لديها مرجعية دينية، وهي تحتل حيزا كبيرا من مشروعيتها، ورغم قراءاتها المنفتحة للدين الإسلامي كما يعبر عنه مفهوم الإسلام المغربي المعتدل، إلا أنها في حالات معينة تكون أكثر تشددا، وكأن شعارها يقول مع الشاعر عمر بن كلثوم «أَلاَ لاَ يَجْهَلَـنَّ أَحَـدٌ عَلَيْنَـا، فَنَجْهَـلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِيْنَـا».

تعرف الدولة المغربية أن أكثر ما يحرجها في مواجهة الأصوليات الدينية المتعددة هو أن تتهم بالتفريط في حماية الدين، ولذلك هي لاتقبل أن يزايد عليها الأصوليون في هذا المجال، فتختار أن تعلن أصوليتها الأكثر راديكالية في مدنيتها من أصولية الأصوليين (وليس الإرهابين لأن هؤلاء لديهم منطق آخر)، إنها كما لو أنها تقوم بإجراء استباقي وحمائي، أولا لمنع خصومها الدينيين من استثمار الوقائع ضدها، وثانيا لتوفير الحماية العمومية لشخص تضعه تصريحاته في حالة خطر.

في قضية رفيق بوبكر ظهر جانب قضائي يحوله الأصوليون إلى خلق «نبيه الوحش» مغربي، ذاك المحامي المصري الذي اشتهر بمطاردة الفنانين والكتاب بدعاوى التكفير وازدراء الدين، الكثير من الأصوليين بدؤوا في إغراق بوابة الشكايات لدى النيابة العامة بشكايات دينية، وهذا باب إن تم فتحه على مصراعيه لن يكون بالإمكان إغلاقه بسهولة.

وثمة أمر غريب، في الوقت الذي سعت فيها الدولة إلى تطبيق «إسلامية الدولة»، كان هناك العشرات من النشطاء الإسلاميين المعتدلين الذي استغربوا لاعتقال رفيق بوبكر، وطالبوا بإطلاق سراحه. هكذا هي الأصوليات الدينية، لا تستقر على حال، وتخضع لتقلبات وتغيرات لاتتوقف.

هذه المقاربة ليست بنت عدم، بل لديها توجه أدبي سابق، لما نعود إلى أول منشور أصدره رئيس النيابة العامة محمد عبد النبوي والذي يحدد فيه أولويات السياسة الجنائية، نجده يضع حماية الحقوق والحريات في الرتبة الأولى، وهذا ما ينطبق على الحماية القانونية التي تم توفيرها للمثلي ضحية اعتداء مفترض، في حين نجده يضع حماية الأمن والنظام العام وفيها أمر الدين، الذي تندرج فيه حالة رفيق بوبكر، في الرتبة الثالثة.

بمعنى أن السياسة الجنائية في القضايا الطارئة والمستعصية تسير نحو الإنفتاح، ولكن تدخل الأصولية الدينية يدفع الدولة إلى الدفاع عن أصوليتها، فتعود إلى التشدد والإنغلاق، ما يجعل ترتيب أولويات السياسة الجنائية مثل الكتبان المتحركة، لاترسو ولا تستقر على حال.

ولولا الأصوليون و«حمقى الله»، لكانت سياستنا الجنائية أكثر ليبرالية.