ثقافة وفن

شكدالي يكتب عن.. جائحة كورونا و البحث عن النموذج التنموي الجديد بالمغرب.. 3- الإدراك الاجتماعي المعطوب

أحداث انفو الأربعاء 10 يونيو 2020
mustafa chegdali
mustafa chegdali

Ahdath.info

المصطفى شكدالي/ أستاذ التعليم العالي مؤهل في علم النفس الاجتماعي

بالمعهد العالي الدولي للسياحة بطنجة

ارتبطت فترة الحجر الصحي خلال هذه الجائحة بالتباعد الاجتماعي وما رافق ذلك من تعبئة إعلامية وأمنية تحُث المواطنين على البقاء في البيت وعدم مغادرته إلا في الحالات الضرورية. ورغم كل الجهود المبذولة لبلوغ هذه الغاية، لاحظنا في مناسبات متعددة عدم الامتثال للبقاء في البيوت وخرق للحجر الصحي تحت مسببات تكاد أن تكون واهية.

وعدم الامتثال هذا يؤشر، من الناحية السيكولوجية، على غياب إدراك المخاطر والتعامل معها بمنطق التصورات النمطية المكتسبة، مما يحول دون عملية التكيف مع واقع الجائحة. هنا كذلك، يمكننا الوقوف على نوع من الهشاشة الفكرية التي ترسخت بفعل غياب سيادة الفكر النقدي الذي يتيح للأفراد التلاؤم والتوافق مع ما يمليه واقع الحال، والابتعاد عن السلوكات التنافرية التي تشوه الواقع، حتى يتوافق مع معتقداتها النمطية المكتسبة.

إن الهشاشة الفكرية-الإدراكية التي بدت واضحة للعيان من خلال الجائحة، تؤشر في العمق على إفلاس نظم التربية والتنشئة الاجتماعية على مستوى التعليم المدرسي، وكذلك على مستوى التنشئة الأسرية. وهو ما يعني أن البحث عن النموذج التنموي الجديد لابد أن يمر من خلال بناء شخصية الإنسان الأساسية، بعيدا عن التراتبية الاجتماعية التي تعرفها كل من المدرسة والأسرة.

فواقع الحال اليوم يُظهر لنا أن التعليم المدرسي الممارس بالمجتمع المغربي هو تعليم تراتبي بين المدرسة العمومية والخصوصية ومدرسة البعثات الأجنبية. والفوارق في الإمكانيات والمحتويات لهذه المدارس كفيلة بتنشئة معطوبة لا ترقى إلى مستوى تكوين الشخصية الأساسية لأبناء المجتمع الواحد رغم الفوارق الاجتماعية.

فإذا كانت الجائحة كحدث غير مسبوق، يتطلب من الأفراد مهارات نفسية- توازنية جديدة لم تكن في الحسبان، فإن إدراكهم المعطوب نتيجة لغياب تعليم وتنشئة اجتماعية يمتازان بالدينامية وفهم الواقع والوقائع في سياقاتها، لن يمكنهم من تحويل ما اكتسبوه على المستوى الذهني لمسايرة مخلفات الجائحة على المستوى النفسي-الاجتماعي. لذلك وجب الاستثمار في الإنسان وتكوينه معرفيا، وذلك بجعله في مركز الغايات الكبرى للمشروع المجتمعي المبحوث عنه من خلال النموذج التنموي الجديد. فلا فائدة من تنمية لا تجعل من الإنسان وتطوير إدراكه الوسيلة والمطلب.

الجائحة والتغير الانفعالي

مع انتشار الجائحة وتمديد فترات الحجر الصحي، تعالت أصوات عبر مواقع التواصل الرقمي تنادي بالتغير، والإقرار بأن هذا التغير قد حصل بالفعل، وأن الآتي لن يروم إعادة الماضي. وفي المقابل ظهرت سلوكات انتكاسية تشيد بالحياة الماضية والرغبة في العودة إلى الماضي. خطابات متنافرة لم تصدر فقط من عامة الناس ولكن كذلك من خلال تعاليق النخبة عبر برامج حوارية ومحاضرات افتراضية ورقمية.

إن الرغبة في التغير بالتعبير عنه سواء نحو الآتي أو بالرجوع إلى ما قبل الجائحة، هي في العمق رغبة تعبر عن الانفعال أكثر منها تعبيرا عن الفعل. ومن هنا، لا يمكن لأي نموذج تنموي جديد أن يبني تصوراته للتغير على الانفعالات مادام التغير المنشود يجب أن يخضع لعملية بنائية هدفها ترسيخ الفعل وليس الانفعال. والتغير بهذا المعنى يتحدد في عمليتين متصلتين، وهما التغير المؤسَس والتغير المؤسِس.

وهو ما يعني أن التأسيس للتغير يتطلب بناء النماذج التي تتحول إلى قدوة ومطلب لدى الأفراد، خاصة الشباب منهم، ليؤسِس لديهم النهج الذي يجب اتباعه نحو الخلق والإبداع والمساهمة في الرفع من الإنتاجية الاجتماعية، ليس فقط في المجال الاقتصادي، ولكن كذلك في تطوير المعرفة الاجتماعية التي تساعدهم على فهم الواقع والتفاعل الايجابي معه. وهذا العمل لن يتأتى إلا بإعادة النظر في النماذج التي يُروج لها في ميادين السياسة والفن والثقافة.

الجائحة وبزوغ دور الفاعل الاجتماعي

كما حصل في جميع الدول، عرف المغرب بحلول الجائحة ظهور فئات اجتماعية أصبحت في الصفوف الأمامية لمواجهة الوباء والعمل على مساعدة الآخرين وتوجيههم للوقاية من مخاطر العدوى. وبظهور هذه الفئات توارت إلى الخلف النماذج الفجة التي كانت تحتل الواجهة كنموذج مبتذل أخذ موقع الريادة دون قيمة مضافة للمجتمع، بل على النقيض كان يساهم في نشر ثقافة الإسفاف والاستخفاف.

إن الجائحة جعلت من الأطباء والممرضين والأطقم الطبية أبطالا في الصفوف الأمامية حيث أصبح دورهم بارزا لدى الجميع، لا يمكن تجاوزه أو القفز عليه. لقد كشفت لنا الجائحة الحاجة الماسة لوجود الأطباء كشرط أساسي من أجل ممارسة الحياة، وبالتالي تطوير قطاع الصحة والعناية به وجعله تاجا فوق رؤوسنا جميعا. ذلك أنه من المستحيل أن نبلور نموذجا تنمويا جديدا في غياب مواكبة صحية جيدة تليق بمقام المواطن المستهدف بالتنمية المبحوث عنها.

وكما هو الحال بالنسبة للأطقم الطبية، ظهر جليا دور رجال النظافة في تعقيم الأمكنة والمساحات التي تشهد تحركات مكثفة والتخلص من النفايات، فكان لدور هذه الفئات الأثر الايجابي في خدمة المجتمع ومحيطه الايكولوجي.

كما أن رجال السلطة وأعوانها والأجهزة الأمنية بكل فروعها، تحولت لمؤازرة المواطنين وتأطيرهم ومواكبتهم في عملية الحجر الصحي، حيث حولت الجائحة الدور المختزل لرجل السلطة في الحفاظ على النظام العام واستتباب الأمن إلى دور أرقى وأسمى وهو دور التعبئة والتأطير والإرشاد. مما جعل هذا الدور يتحول من شعار الى فعل. فكيف السبيل إلى ترسيخ الدور الجديد لرجل السلطة في نموذج تنموي جديد يتحول بموجبه الى فاعل اجتماعي مواكب للتعبئة في مواجهة الجائحة، ليس فقط في جانبها الوبائي، ولكن كذلك في جانبها الاجتماعي لما بعد جائحة كورونا؟

ومع الجائحة، توقفت المدرسة ولم يتوقف التدريس، فظل المدرس في محرابه يقدم دروسه عن بعد، عبر منصات التواصل الاجتماعي الرقمي ليعزز دوره كفاعل اجتماعي له الأثر الأوفر في بناء العقول، والمساهمة في عملية التعليم والتعلم. لقد أظهرت الجائحة الدور الريادي للمدرس كعنصر أساسي لا يمكن التخلي عنه في عملية بناء الإنسان،والتي تعتبر الرُكن الأساسي لكل نموذج تنموي غايته خدمة المصالح العليا للأفراد و للمجتمع على حد سواء.

ومع البدايات الأولى للجائحة، تحول الإعلام، في جزء كبير منه، إلى التعبئة ومحاربة الأخبار الزائفة التي تناسلت على مواقع التواصل الاجتماعي الرقمي، والتي كانت تسعى بسوء نية إلى نشر ثقافة الرهاب وفبركة معلومات للتأثير السلبي على المواطنين وهم في وضعية الحجر الصحي.

فالمتتبع للقنوات التلفزية والإذاعية، الرسمية وغير الرسمية، فُوجئ وهو يلاحظ استضافة المفكرين والعلماء والمتخصصين لأخذ الكلمة وتقديم شروحات وتعاليق لتنوير الناس، ليس فقط لتقديم معلومات حول طبيعة الجائحة الوبائية، وإنما كذلك لمرافقتهم بالفهم والتفسير لمضاعفاتها النفسية-الاجتماعية التي خلفتها وضعية الحجر الصحي.

وهنا، لابد من طرح السؤال؛ لماذا غاب دور الإعلام كفاعل اجتماعي ولم يتخذ مكانته كاملة، إلا جزئيا، في التعبئة الاجتماعية قبل حلول الجائحة الوبائية؟ ولماذا لم يساهم بالشكل اللائق في بناء معرفة اجتماعية تساهم في تنشئة الأفراد والرفع من مستوى إدراكهم المعرفي؟ قد تكون كل هذه الأسئلة من البكائيات على ما مضى وأن الأهم هو أن نتوجه نحو المستقبل.

غير أن المنطق يقول؛ إن الذي لا يعرف من أين أتى سيجد نفسه في مكان مجهول أو بلغة الفيلسوف الألماني جورج فيلهلم فريدريش هيغل : "إن كل من لا يعي تاريخه، سيجد نفسه مجبرا على إعادة الماضي". ويبقى سؤال المستقبل في مسألة الإعلام، هو كيف يمكن للنموذج التنموي المبحوث عنه أن يجعل من الإعلام رافعة لتحدي الجائحات القادمة وتجاوزها بإنتاج محتويات تساهم في إدراك المخاطر والدفع بأفراد المجتمع إلى التأقلم معها؟

 

يتبع