ثقافة وفن

تأملات حول عمر حمّي من توبقال

بقلم: د. يوسف بن مير مراكش الثلاثاء 14 يوليو 2020
unnamed-1
unnamed-1

AHDATH.INFO

أتيحت لي في الآونة الأخيرة لحظة من التأمل بسبب وفاة شخص أحدث فرقًا في مسار حياتي. كنت أعيش منذ سنوات في منزل عمر حمّي آية عمرار في قرية أمسوزرت في جبال الأطلس الكبير في المغرب. قد تكون مشاركة القصص عن هذين العامين (1993-1995) خلال فترة سكني في منزل عمر وما تلاها ، قصص الحياة تلك، ذات مغزى للآخرين.

في أوائل التسعينيات كان الوصول إلى هذه القرية البعيدة جدًا التي تقع بين اقاليم ورزازات وتارودانت والحوز أمرًا صعبًا. من بين الوديان الخمسة المحيطة بجبل توبقال ، أعلى قمة في شمال أفريقيا ، يوجد واحد فقط على جانبه الجنوبي: وادي تفنوت. وما يميز هذه الحقيقة هو أن حوالي نصف منتزه توبقال الوطني يشكل المراعي الصيفية لقطعان سكان تفنوت. ومع ذلك ، حتى ذلك الوقت لم يكن هناك اتصال كافٍ بين إدارة المنتزه وبلدية تفنوت المكونةّ من 44 قرية (حوالي 12000 شخص) لأنه بعيد جدًا حيث يستغرق الوصول إليه 24 ساعة بسبب الإضطرار للدوران حول جبال الأطلس من أجل الوصول ، مع آخر مسار منها بطول  70 كيلومترًا غير معبّد. وعندما تم تكليفنا بصفتنا متطوعين في هيئة السلام بمتنزه توبقال ، كان بإمكاننا اختيار العيش في أي مكان بين وديان القرى ، لذلك عندما سمعت أنه لم يذهب أحد إلى تفنوت ، قلت: "حسنًا ، سأفعل، سأذهب إلى هناك". سافرت على مراحل ، واستغرق الأمر مني ثلاثة أيام للوصول إلى هناك، وكان ذلك خلال شتاء عام 1993.

وعندما كان أشخاص يصلون إلى تفنوت، كان دائما ً يتم إرسالهم إلى الشيخ عمر حمّي. لم يكن أحد يعرف أنني قادم وكنت أخطط للبقاء هناك لمدة عامين. أتذكر أن أول وجبة أكلتها كانت عجّة ، وبعدها شعرت بالتعب والمرض من الرحلة الطويلة الباردة. كنت مريضا لمدة أسبوعين ولم أتمكن من مغادرة غرفتي وأصبت بالهلوسة المرعبة التي لم تنتابني أبدا ً قبل ذلك في حياتي. قررت في وقت مبكر أن أشاهد الأشكال المهددة في ذهني مثل المتفرج على شريط سينمائي، وانتهى بي المطاف إلى فقدانهم بمجرد رحيلهم. وفي الليل كنت أشعر بيد عمر حمّي على رأسي لأنه كان قلقاً للغاية. كان يتأكد من أنني تناولت حساءاً ساخناً وأيضًا فيتامين"ج"( C) اليوسفي (فاكهة المندرين) الذي كان لحسن الحظ في موسمه في المغرب.

بعد بضعة أيام جاء الشيخ المحلي لزيارتي وحشدت ما يكفي من الطاقة للجلوس. عرضت جواز سفري وسألت عما إذا كان الناس سيكونون سعداء إذا عاش أمريكي بينهم لمدة عامين ، فأجاب:" نعم". هذا كان كلّ شئ. لكن الأمر أصبح أكثر تعقيدًا لأن القائد لم يشعر بنفس الشعور. في ذلك الوقت ، كان تمكين المجتمع والتنمية التشاركية كلمات لم يسمع بها أحد من قبل ولم تكن أفكار التغيير المنظم هذه موثوقة بشكل خاص - والإعتقاد بأن تنفيذها أصبح الآن مفوضًا في المغرب. القائد لم يكن يريد أن يعيش غريب غير متوقع في تفنوت، ولكن هذا الشخص كان مريضًا وملتزما ً بالفراش (أو بالأحرى الأرضية المغطاة) وكان  يمثل معضلة لعمر.

وبما أنني كنت لا أزال واهن القوى ، أقنعني عمر بالذهاب إلى مستشفى في تارودانت. لم أكن أتحسن ، ولم أكن أمشي على رجلي حقا،ً ولم يكن لدي طاقة. لقد وافقت على مضض. ولكن عندما وصلت إلى نقطة العبور، رأيت أن كلّ أمتعتي كانت معبأة في الخلف. كنت أعلم أنه إذا دخلت سيكون من الصعب علي العودة. لذا  رفضت. استدرت وعدت إلى منزل عمر. وعندما مررت عنه في طريقي إلى غرفتي ، كان وجهه متحجّرا ً لأنه كان يعلم أن طريقته للخروج من الوضع المتضارب لم تكن ناجحة. لكنه قبلني.

كانت تلك بدايتنا. بعد ذلك بقليل قمنا بعمل ترتيب حيث كان السكن مع تناول الإفطار والعشاء معه. وبهذه الطريقة كان له التأثير الأكبر على حياتي الشخصية خلال تلك السنوات لأنه وافق على القيام بذلك على الرغم من أنه في بعض الأحيان كان يشعر أنه لا يجب عليه فعل ذلك.

أتذكر قصة أخرى  تدل إلى حد ما على الأوقات التي عشناها قبل ثلاثين عامًا تقريبًا، حدثت مساءً عند العشاء. كنت دائما ً أنا وهو معا ً وكان هو  في السبعينات من عمره في ذلك الوقت. كان جدًا وأصبح لاحقًا الجدً الأكبروعاش حتّى سن 103. في إحدى الليالي كان عمر وأنا نتحدث عن سكان تفنوت  وانتهى بنا الأمر بالحديث عن الشيخ الحاج لحسن آية عثمان، رجل معقد ومستغرق دائما ً في التفكير تعرّفت عليه فيما بعد. سألت عمر إذا كان صديقاً للشيخ ، فقال لي: "قبل أن يصبح شيخاً ، كنا صديقين حميمين !" وضحك، مما جعلني أضحك. ضحكنا بشدة لدرجة أننا بكينا.

نزلت في اليوم التالي إلى متجر القرية الذي كان صاحبه صديقا مقربا من عمر الذي كان هناك أيضا عندما دخلت. أخذ عمر بسرد قصة دموع الليلة السابقة السعيدة. وعندما وصل إلى النقطة التي كان عليه أن يشير فيها إليّ، لم يكن يريد أن يدعوني "أغموي" (aghmoy) - وهو لفظ يُطلق على الأجانب أو الغرباء – بل سألني  بدلا من ذلك عن اسمي. كنت آنذاك أعيش في منزله منذ بضعة أشهر في تلك المرحلة ،أتناول الإفطار والعشاء معه كل يوم  ونجلس معًا من حوالي الساعة 4:00 بعد الظهر - عندما كانت الشمش تغرب خلف الجبل – ونتحدث،  ولم يكن يعرف اسمي !

الشيخ محمد حمّي في وادي تفنوت بحدود عام 1950

يمكنك التفكير في ذلك بعدة طرق، ولكن هل يمكنك أن تتخيل ذلك ؟ كنا نتحدث عن التجارب الشخصية: أخبرني عمر عن الوقت الذي عاش فيه اليهود هناك، عندما كان شقيقه شيخًا وكان لديه مستشار يهودي. كنّا كل يوم نتحدث ونتشارك وكان هناك دفء في العلاقة بيننا، وكلّ ذلك استمر دون أن يعرف اسمي. كانت هناك ثقة لاستقبالي بهذه الطريقة دون أن يطلب رؤية جواز سفري، دون أي عقد رسمي، دون القلق بشأن ما إذا كنت سأدفع له في الوقت المحدد أم أنني لن أستطيع ذلك.

لقد كان مرحّبا ً حقًا وقدّم ضيافة غير مشروطة. هكذا شعرت بشأن العلاقة وما تعلمته في تلك السنوات الأولى هنا في المغرب.

توفي شقيق عمر الأكبر محمد الشيخ (وهو ما يمنح العائلة لقب آية عمرار) عام 1951 من التسمم. هل يمكنك أن تتخيل شرب فنجان قهوة له مفعول مدمّر ويحوّل كليتك إلى سائل ثم تتقيّأه ؟ هذا يجعلني أدرك طبيعة السم. يمكن للناس أن يتشاجروا ، ولكننا نقف عند خطّ السمّ بسبب خفاياه – ليس فقط الغدر ولكن الخداع الجبان له. لماذا تم تسميمه ؟ لأنه ، حسب عمر، منع رجال القرية المحليين من الزواج من أكثر من إمرأة. في ذلك الوقت تقريبًا  زار قرية أسفل أمسوزرت وتناول كوب القهوة المسموم هذا ، وعاد إلى المنزل  وعاش يومين آخرين فقط. في اليوم التالي لعودته سأل عمر: "عند أية نقطة تقف الشمس ؟" أخبره عمر بمكانها. ردّ محمد بالإيماءات: "عندما تصل إلى [هذه النقطة] سأكون قد متّ".

لقد تأثرت إلى حد كبير بالمحادثات المتواصلة مع عمر لجميع القصص والأفعال والمواقف التي يمكن أن يتذكرها عن أخيه والناس. كمثال ، قصة ظلت عالقة في ذهني  طوال هذه السنوات وكانت جزءًا من رسالتي للماجستير. إنها قضية إمدادات المياه في تلك المنطقة. كان هناك مصدر مياه على شكل نبع يسمى "أوراي" يتدفق شمالًا بدلاً من الجنوب، لكنه كان يتبع ضاحية تفنوت الجنوبية. كانوا يعملون في مشروع ، يحفرون في الجبل لعكس اتجاه تدفق المياه الذي كان سيغير مسار حياة أربعة عشر قرية وعدة آلاف من الناس وأجيالهم التي تلت. توقف المشروع عند وفاة الشيخ محمد كل تلك السنوات الماضية، وحتى يومنا هذا ما زالوا يعانون من عدم كفاية المياه، يضطرون إلى ضخ كمية غير كافية من مسافة ثمانية كيلومترات بدلاً من أن يكون لديهم مصدر خاص بهم - علاج غير مستدام. أصبح أوراي مشروعًا أردت حقًا العمل عليه أثناء خدمتي، وما زلت أرغب في تنفيذه وأدافع عنه. كنت أعيش في تفنوت، وأدخل غرفتي بعد هذه المحادثات مع عمر، وكنت أودّ أن أكتب هذه القصص في دفتر يوميّاتي. قصص الماضي ، مثل قصص أوراي ، أعيدت إلى الحياة مرة أخرى في الوقت الحاضر حيث حاولت الإستفادة من العمل الضروري الذي بدأ قبل عقود عديدة.

وبعد عامين، عندما عزمت على المغادرة قريبًا، أحضر لي عمر غلاية الشاي الصغيرة المصنوعة من الفضة والتي كان الشيخ محمد يشرب الشاي منها مع زوجته. كان الإثنان فقط يشربان الشاي من تلك الغلاية – سمة من الإرث العائلي أو الإرث الإقليمي - وقد أعطاني إياها. كانت هذه هدية من ورائها تفكير عميق للغاية. لقد أحضرت غلاية الشاي معي عندما عدت إلى نيويورك. عرضتها على عائلتي وقلت: "هذه غلاية الشاي للشيخ محمد ، وكان يشرب الشاي منها مع زوجته فقط". شرحت لهم أنه حاول القيام بالأمور الصحيحة ، وقتل من أجل ذلك وأن عمر الغلاية كان يقترب من قرن من الزمن. بالنسبة للآخرين كانت مجرد غلاية قديمة غير مصقولة من الجبال التي لم يكن لديهم سوى القليل من الإنتماء إليها، وبدا أنهم لم يتأثروا بشكل خاص من خلال القصة. أصبح من الواضح أن هذه الغلاية كانت في المكان الخطأ تمامًا. تكمن قيمتها ومعناها في توبقال. لذا ، وعلى الرغم من أن الأمر استغرق بعض الوقت، عدت  بعد بضع سنوات إلى عمر  وأعدت إليه الغلاية. قلت ، "عمر، هذه الغلاية تنتمي إلى هنا." وبإلقائه عليّ نظرة صامتة دون أن ينبس بكلمة، فهم ما أعنيه وقبلها.

عمر حمّي من توبقال في عام 2017 وبيده

صورة له مع كاتب المقال عند الإحتفال معا ً بعيد

الأضحى المبارك في عام 1994.

(تصوير: حسن آيت أواتوش)

وقافزا ً إلى النهاية،  كانت  محادثتنا الأخيرة  قبل أيام قليلة من وفاته في شهر مايو 2020. لم يعد بإمكانه التحدث. كان بمقدوره فقط  أن يهمس لحفيده محمد الذي كان ينقل لي ما قاله عمر. وكنت أردّ على عمر عن طريق محمد الذي كان ينقل تعليقاتي إلى جده. آخر شيء قاله لي كان "هذا هو بيتك"،  مما يعني أن منزله مكان أنا دائمًا مرحّب فيه.

ومن وقت لآخرعلى مدار ثلاثين عامًا كان منزل عمرالمكان الذي وجدت فيه نفسي. كان فيه- في أي وقت ٍ أكون فيه هناك -  شيء مريح وملطّف  أكثر من أي مكان آخر.

الدكتور يوسف بن مير عالم اجتماع ورئيس مؤسسة الأطلس الكبير ، وهي منظمة غير ربحية مكرسة للتنمية المستدامة في المغرب.