كلمة الأحداث المغربية

المكتبة الأخيرة

سعيد نافع الأربعاء 13 يناير 2021
Capt
Capt

AHDATH.INFO

في زمن الكتب، اشتدت المنافسة بين ثلاثة مكتبات في الحي القديم. مكتبة ‘‘سي عمر‘‘ التي احتلت زاوية الشارع الكبير، وسميت عرفا بمكتبة ‘‘الشوكة‘‘ عند سكان الحي. مكتبة الحاج في آخر الشارع، ومكتبة ‘‘المدني‘‘ التي أدارها أبنائه بعد وفاته. الحاج والمدني أبدعا في تكريس الوفاء لدى زبنائهم من الحي وخارجه، وتفننا حسب الاختصاص في تعزيز منسوب الثقة والجذب لدى المريدين المتكررين. سي عمر كان مخلصا.. محبا للكتب، لدى فاقت أعداد زواره أروقة المنافسين معا، لما كان يحيطهم به من اهتمام ولباقة واستعداد مرن للمفاوضة في الأسعار. كان با عمر يعتقد أن عمله ككتبي اختيار قدري لتأدية رسالة.

ولأنه كان شغوفا، فإن البناء المنطقي والفني لمكتبة ‘‘سي عمر‘‘ اختلف عن شكل المكتبتين المنافستين. ففي الطاولة الزجاجية الممتدة على المدخل المتكونة من ثلاثة طوابق أفقية وضعت الكتب المدرسية والمقررات الجامعية، فيما زين سطحها بمجسمات كرتونية لأهم المآثر التاريخية العالمية، من برج بيزا المائل إلى سور الصين العظيم في نسخة جد مصغرة. في أقصى اليمين وضع سي عمر كرة أرضية، وعلى أقصى اليسار رسما دقيقا لرحلة أبولو 11 إلى القمر. في الرواق البارز من الحائط الأيمن رتب سي عمر كتب التاريخ والفن والفلسفة مع أدبيات مداخل الحضارة الإنسانية، فيما احتلت كتب علم النفس والاجتماع والاقتصاد النصف الأسفل من حائط العمق في المكتبة. على اليسار، أوجد الكتبي المتفرد دواوين المتنبي وأبي نواس والحمداني إلى جانب دواوين أمل دنقل ونزار والسياب، غير بعيد عن روايات فرنسية وانجليزية لكبار كتبة التخييل باللغتين، دون نسيان روائع محفوظ وعبد القدوس والغيطاني والطيب صالح... لقد كانت مكتبة سي عمر محرابا ثقافيا يغري بالمعرفة.

حتى الأطفال كان بوسعهم الاختيار بين الكثير من ‘‘المفاجآت‘‘ الجميلة في رواقهم عند مدخل المكتبة، حيث كانت تصل أسبوعيا مجموعات قصصية لمحمد عطية الأبراشي ودائرة المعارف العراقية ذات التصفيف الصقيل، وماجد الإماراتية والعربي الصغير و‘‘ريدرز دايجيست‘‘. فرض سي عمر ثمنا بسيطا مقابل التبديل الأسبوعي للقصص والمجلات على الصغار.. كانت ‘‘عشرة دريال‘‘ مرادفا للكثير من فرح الاطلاع المتجدد.

بانتصاف عقد التسعينيات وحلول زمن جديد راجت فيه السلع أكثر من الأفكار، ثم ظهور أشكال أخرى موصلة للمعرفة ومسهلة للقراءة، وجد الكتبيون الثلاثة أنفسهم في دوامة منافسة متعددة الأوجه. ضاع الكثير من الزبناء، وتراجع الإقبال بشكل لافت. بعد وفاة ‘‘المدني‘‘ لم يفكر أبنائه الثلاثة مرتين قبل إغلاق المكتبة، وتحويلها إلى ‘‘سناك‘‘ يبيع ساندويتشات سريعة للعابرين. ‘‘الحاج‘‘ قاوم لسنتين أو ثلاث، ثم أنزل الستائر، ثم اختفى من الحي بعد أن انتقل للعيش في مكان آخر .

وحده ‘‘ سي عمر‘‘ ظل يقاوم. هبت رياح التجارات الجديدة ذات دورات الرأسمال السريعة على الشارع، وواجه التجار القدامى خيارا صعبا بين التأقلم السريع أو التخلي عن مواقعهم للقادمين الجدد. قاد سي عمر حركة مقاومة ‘‘شعاراتية‘‘ بين أصدقاءه القدامى سرعان ما تهاوت أمام واقع التحولات الاجتماعية والاقتصادية الكبرى  في الحي. وفيما فهم أن رحيل الكثيرين كان تحصيل حاصل، كابد سي عمر حزنا ممزقا، وهو يودع صديقي العمر، اللذين احتلا لعقود طويلة المحلين التجاريين على يمينه ويساره : الطاهر الخياط والعربي ‘‘مول الصابرة‘‘.

حاولت سعاد أكبر أبنائه إقناعه بالكثير مما يمكن فعله لضرب عصفورين بحجر : الحفاظ على تجارة الكتب مع توسيع هامش النشاط الاقتصادي بإقحام تجارة موازية في المكتبة، دون جدوى. اعتبر سي عمر أن مجرد التلويح بهذا الاقتراح ‘‘اعتداء‘‘ على إرث كامل في خدمة الكتاب. كانت تسعى لأن يستوعب بأنه في حاجة لتخفيف الضغوطات المالية على المكتبة لكنها سرعان ما أدركت أن تضرب في صرح من حجر.  في قرارة نفسه كان يدرك أن سعاد على حق، لكنه كان يكابر. فحتى الناشرون وأصحاب المطابع وصانعي المحتويات المكتوبة سلكوا طرقا جديدة في الإنتاج لم تكن رحيمة بصغار الكتبيين. وتلك حقيقة مرة أصابت سي عمر في مقتل.

عن سن فاق الثمانين مازال سي عمر يفتح ‘‘ريدو لقديم‘‘ لساعة أو ساعتين يوميا، فاسحا المجال لأشعة الشمس بالتسلل إلى رفوف مكتبته القديمة علها تبعث الحياة شغف يحتضر. فحين يجول ببصره في المكان لا يرى سوى أيام مجد صارت ورائه.