الكتاب

من ضيق التاريخ إلى رحاب الشعرية

أسامة خيي الاثنين 18 أبريل 2016
من ضيق التاريخ إلى رحاب الشعرية
AL

AHDATH.INFO خاص نبيل منصر

    في أعماله الشعرية "بستاني الروح" (منشورات بيت الشعر في المغرب)، تحمل قصيدة عبد اللطيف اللعبي ندوبها القديمة، لتُنجز وثبتها الشعرية التجديدية باتجاه فضاء القول الآتي. لقدْ راكم هذا الشاعرُ المغربي، في الفرنسية ومن خلال شعريتها، على امتداد ثلاثة عقود سابقة، تجربة في النضال من أجل الحق والعدالة والخير، تحملتِ اللغة وزرها، على نحو رفع من صوتِ الخارج، وجعل القصيدة تنضبط لحاجيات السياق، الذي راهنتْ على الفعل فيه. لذلك، خفتَ صوتُ الذات في تلك التجربة، فلم تتسع القصيدةُ لغير هواجسها الجماعية، التي جعلتْ منها صوتَ نخبة التغيير. قوة هذا الشرط، في حقبة ملتهبة، جعل القصيدة تؤجل مطالبها الحيوية في الحق الشعري والجمالي.

     في هذه الأعمال الشعرية الجديدة لعبد اللطيف اللعبي، يعثرُ هذا الحق على مُتنفسه الكبير. فلا تبقى الذاتُ رهينة خارجٍ تبدلتْ شروطُه وحقائقُه، وإنما تندغمُ في الموضوع الشعري على نحو يجعلُ الحق لا يعلو على الفن، وإنما يُنصتُ أيضا لصوته الداخلي العميق، ولرهاناته الفلسفية والجمالية، عبر لغة الشعر ومِن خلالها. لقدْ اتسعَ المدى أكثر أمام الشاعر، بعد أن "انجلتْ الأوهام"، وتبينَ أن للشعر أسئلته الخاصة، التي من موقِعها يعيد الشاعر النظر في العلاقة بالواقع والحياة. علاقة تتجه أكثر نحو استبطان الأحوال والأمكنة والمقامات والقيم، على نحو يُذوِّتُ الحقيقة وينفخُ في روحها "أنفاس" السخرية، بعد أن زرعَ بداخلها بذرة التفتت والانشطار.

     في "قريني العزيز"، تشخيص شعريٌّ لهذا الانشطار، عبرَه لا تختلقُ الذاتُ نِدّاً شعريا يقتسمُ معها متعة الكتابة وآلامها في نوع من الاستقلالية الفنية والجمالية، على نحو ما نجد عند الشاعر البرتغالي فيرناندو بيسوا، وإنما تنقسم النواة الواحدة إلى صوتين متعايشين، في تواطؤٍ وتنابذٍ مستمر داخل الذات الشاعرة. إنه ابتداعٌ لصوتٍ داخلي جريء، يمتاز بقدرته على ممارسة "الحقيقة "من زاوية أخرى، يمتزج فيها النقد بالسخرية، والأمل باليأس، وحرارة العاطفة ببرودة التأمل، والاستشراف بالالتصاق بجلد اللحظة، واستعادة الماضي بالانحياز للحاضر، والانصات للمجاري الصامتة للدم بالتوق للحظة السكينة الصوفية، التي يمتزجُ فيها الجسدُ العضويُّ بروح الأرض والنبات.

     إن تاريخَ الذاتِ، تعيدُ الكتابة بناءَه مِن مَوقع هذا الانشطار المِرآوي، على نحو تصبِح فيه أرض اليوتوبيا أكثر هشاشة بحضور صوت القرين، القريب من الكلمات والأشياء والذاكرة والتجارب والأحلام قرابةً تهجس بحدودها واحتمالاتها، من دون مبارحة لمقام الهزء وانتاج المفارقة. إن قوة صوت القرين وضعفَه فعالان، ينطلقان بالقول الشعري، في هذه التجربة، إلى فضاء رسم الخطوط المتعرجة المتداخلة لوجه "الحقيقة"، الذي يتسع حتى يصبح في حجم خريطة بلد أو قارة بأكملها. وضمن هذا الفضاء، يتم استدعاء كل الموضوعات والأحلام والرهانات الوجودية والسياسية والشعرية والفنية والفلسفية، التي حركت وجدانَ الشاعر وشكَّلتْ نطفةَ حبره، على امتداد حياة بكاملها، لم تنفصل فيها يدُ الكتابة عن أحلام التغيير وكوابيسها. وبقدر ما استدعت الكتابةُ هذا "الإرث الذاتي"، بقدر ما أتاحتْ لصوت القرين إمكانية عَجنه، فبدا مُتخففا من وثوقيته، مُخترَقا بأنفاس ارتيابية، تنقلُ فضاء القول من "ضيق" التاريخ إلى رحابة الشعرية.

      هدَّأ الشاعر مِن توتره، في نهاية الديوان، مع القرين. بل اتجّهَ نحو اِمتداحِ مزاياه  وشرطه الوجودي، الكامن وراء ولادة الشاعر نفسه. بدون صوت الآخر الداخلي، لم يكن متاحا لصوت الذات الخارجي إمكانية التفاعل الشعري مع واقع حافل بالإكراهات، وذات ضاجة بالقلق. وافترضُ أن هذا الصوتَ القرينَ اتجه مجددا نحو الالتحام بالذات، بعد أن تشبعتْ بديناميته الشعرية، فانبرى يعمل في لاحق التجربة الشعرية بصمت. بيد أن أثره يظل مقترنا بلحظات الهشاشة والارتياب، التي تسائل المسار الشخصي في علاقته بالأسئلة الحارقة، التي يُفرزها الشرطُ الواقعي والانساني.

    ضمن هذا الأفق المفتوح على أهوال التجربة، تنكتب أعمال الشاعر الأخرى. ففي ديوان "منطقة الاضطرابات"، تُحوِّلُ الذاتُ أصواتَ الخارج المُقلقة إلى أسئلة ذاتية، يستعيدُ الشاعر عبرها مسافة التأمل والاستبطان، التي تستنبتُ في الوقائع والأحوال والتجارب بذرة شعرية، مجدِّدة للأنفاس والنسوغ. بل إن أدوات التعبير والخلق ذاتها، تعثر في هذا التأمل على ما يسائل جدواها، وقدرتها على فرز أجنحة تحلِّق بالذات فوق "منطقة الاضطرابات". إن أسئلة الواقع والحياة لن تبقى بمعزل عن قلق أسئلة الشعر والكتابة، بما هي عتبة تُفضي لتجاوز محدودية الشرط الانساني. هناك لوعة عاشقة مقترنة بحيرة مكابدة المجهول، ومحاولة الرسو على ضفافه. بيد أن إشراق العبارة إن كان ينطوي على وعد، فإن التحقق النصي لا يُسعِف بتحقُّقِه. لذلك تعكف اللغة على ذاتها، منصتة لنداءاتها الغامضة، التي يُمكن أن تفضي "لرمية نرد حاذقة". لا تُفضي لغة الشاعر إلى مثل هذه الرمية المُستحيلة، المستَحقة، لكنها تمتدحُ المُحاولة، في سياق مقارعة الأهوال، وتحويلها إلى تجربة في الكتابة المُتعدِّية. امتداحٌ يستدعي إشاعة روح انسانية، تنطلقُ مِن جدارة الأخوة الشعرية، وتلتف حول الكلام الشمسي المنبثق من أعماق الشعراء.

      في كتاب "الفصل المفقود" تتسع أكثر أبعاد المهاوي الميتافيزقية، ويواصلُ القرينُ اشتغاله الصامت في تلك المهاوي، المقترنة بلحظات الطفح الوجودي، بعد تجربة طويلة في ترهيف الصخر (الواقع) وقدح الأمل. إن العكوف على الوجود في مرحلة الطفح هذه، لا ينفصل عن ميتافيزيقا استعادة "التجربة" من زاوية أخرى، تقاربُ فيها الذات حساسيتها تجاه الزمن واللغة والصمت والموت والحلم والمجهول والطفولة والكتابة. مقاربة استغوارية يمتدُ فيها جسد الكتابة سطريا، ليتنامى داخليا على نحو يكتنه، من زاوية شخصية، الأفق الفني والميتافيزيقي لقصيدة النثر. ومن ثمة، تتهادى القصيدة كنهر كبير، ينطوي بداخله على حياة شعرية ووجودية بالغة الحيوية. من هذا العمق ينبثق إحساس بالمأساوي موصولا بشرط الولادة، وبتجربة الحياة، وبعدم القدرة على التغيير. الشعر شفيع لا يهادن مع ذلك. وهو يحول العجز نفسه إلى عزاء فني، يسائل فيه الشاعر أقدار البشر في علاقتها بأقدار التاريخ. إن الطفح المأساوي موصول أيضا بعدم تكافؤ القوى المتصارعة، فضلا عن عدم قدرة الانسان على اختيار مسرح حياته، الشي الذي يجعله رهينا لكتابة ميتافيزيقية مجهولة "المؤلف".