الكتاب

مقاطعُ الدّفتر الليلي

أسامة خيي الاثنين 18 أبريل 2016
مقاطعُ الدّفتر الليلي
BCS

AHDATH.INFO – خاص - محمد الشركي

         1-في ليلتنا العربية الظّلماء يُفْتَقَدُ بدرُ شاكر السّياب

         ". . .   وفي اللّيْلة الظَّلماء يُفْتَقَدُ البَدْرُ " (أبو فراس الحمدانيّ). وفي هذه اللّيْلة العربيَّة الظَّلماء يُفْتَقَدُ بدرُ شاكر السيّاب . هو الّذي افتقَدَ زَمناً فهيما لنُبوغه ورحيما بهشاشته العُضْويَّة ملأَ بذَهَب حروفه مناجمَ الزَّمن . كان جسَدُهُ نحيلاً جدّاً ، لكنْ كانت وتبْقى بابلُ كلُّها في نظْرَته ، والقُوَّةُ الخصيبةُ لما بيْنَ النَّهريْن في روحه . كأنَّه انْزَلَقَ عبر سلالم العُصور منْ أرْض سومَر العالية ليقفَ مشْدوهاً ومُرْتاعاً في عراق كان قد بدأ مُنْذئذ مخاضَه التَّاريخيّ العسير والوخيم ، وفي خليج كان منذورا للانحدار إلى قيامة مُسْتَقْبَله... بيْن الكتابة والانخراط السّياسيّ في الحزب الشّيوعيّ وآلام المرض والحاجَة ، عاش غريباً ثلاث مرّات متزامنَة : في جسده وفي العراق وفي الخليج . ولَوْ طالَ به عُمره الأرْضيّ لأدْرَك أنَّ العراق الكونيّ نفْسَهُ صار غريبا في عراق الدَّمار المَجنون ، وأنَّ خليجَ الأناشيد والعزَّة القديمة وصحارى الشُّعراء صار غريبا ومَطْموراً ومُتنائياً في خليج النّفْط والدَّم وممالك الثَّراء الوَقح والسُّيوف المَسْلولة بجوار ناطحات السَّحاب . في شتاء 1964 عادَ مُسَجّى في تابوته - مَهده الجديد - ليَنامَ أسْفَلَ "جيكور" ، قرْيَة ميلاده الأوَّل ، الَّتي يعني اسمُها بالفارسيَّة "الجَدْوَل الأعلى" ، والّتي كانتْ ، تماماً مثْل إيثاكا بالنّسْبة لعوليس ، هي موْئل رحلته الرَّمزية الشَّاسعة ، والقاع الزَّمنيّ الَّذي ظلَّ يشعُّ منْه الحُلم المُكابر لتمّوز، وعشتار ، والنَّخيل السَّماويّ ، والخصْب المُقَدَّس،  والرُّوح الثَّائرة المُطاولة لقامات القَدَر. لكنَّه ، ككُلّ الشُّعراء الَّذين يَحْمون أساسات العالم ما وراء جدليَّة الحياة والموْت ، لمْ يأْو إلى قَبْره المُسَهَّد إلاَّ لكيْ يُغادرَه على صَهْوَة حروفه السَّحيقة لاستئناف تَطْوافه اللانهائي في زمن الأرض ، مانحاً وَهَجاً ملْحَميّاً غيرَ مسبوق للجغرافيات والرُّموز والوقائع الّتي رَفَعَها إلى مرّتبة نشيد أنشاد تحالفتْ فيه الرّفْعَةُ الاحتفاليَّة بالانكسار التراجيديّ ، مُغْدقا فيْضَه المُسْتهام على نهر بُوَيْب ، ووجه غيلان ، وشُموخ الجزائريّة جميلة بوحيرد ، وعُرس المَطَر الكونيّ ، وانْبعاث الأزهار والأساطير ، وهَيْبة المومس العمياء ، وزَحْف مدائن السّندباد المُقْفرة ، وحالماً ، كما رامبو الَّذي كانتْ حصَّتُه من العُمر معادلةً لحصَّته ، بنهاية الطُّغاة على الأرض ، وبميلاد الشَّعْب منْ جديد ، دون أنْ يَدُورَ بخَلَده ، ولا بخَلَد أمير المرْكب السَّكران قبْلَه ، أنَّ الأرْضَ والشَّعْبَ هما اللذان ينْتَهيان الآن بعْدما أفْلح الطُّغاة في اختطافهما وارتهانهما ، وأنَّ الشّعْرَ ازدادتْ جسامةُ مُهمَّته واستعجاليَتُها لاسْترداد المجالات والحيوات والذَّاكرات وطُقوس الحُبّ وأعياد الخصْب التَّمّوزيَّة. . .

 

2a33eb32-ade0-4075-951e-4340577c7ea5

         2-إيميلي برونتي: ضوء الحروف في ليل الجروف

         إميلي برونتي . ناسكة الحروف وأميرة الجروف . حفرت بينها وبين العالم خندقا من العزلة الكبيرة ، حدّ أنّ المعلومات الّتي استقاها عنها التّاريخ الأدبيّ اللاّحق إنّما تأتّت بفضل النّبذة الّتي خصّتها بها شقيقتها شارلوت (الرّوائيّة أيضا). . . طوّق أعوامَها الثّلاثين - الّتي هي كلّ عمرها - الفقرُ ، والحرمان ، والموت الّذي اختطف والدتها باكرا ، وألحق بها اثنتين من شقيقاتها جرّاء السّل الرّئوي الّذي سيخترم صدرها الرّئيف هي الأخرى ويودي بها في النّهاية . لذلك لم تكن من هذا العالم ، بل من جهة أخرى مريرة وخصيبة في الوقت ذاته . حتّى وجهها الجميل الّذي جاءت به إلى هذه الأرض شبيهٌ بوجه أوفيليا البيضاء الّتي خلّدها رامبو ، توأمها الرّوحانيّ الّذي وُلد بعد رحيلها بست سنوات . ولشدّما تتماثل التّضاريس البدائيّة لروايتها الوحيدة "مرتفعات ووذرنغ" - يتيمة دهرها الدّاخليّ الهادر - بتلال يوركشاير الموحشة الّتي كانت تجوبها بقدميها الرّبانيتين وهي تناجي نفسها ، صديقتَها الوحيدة . فمن رحم هاتيك الارتحالات الجوّانية داخل أقسى العزلات ، ومن انتسابها إلى أسرة ذات حساسية وجدانية كبيرة عمّقت لدى ما تبقّى من بناتها كما لدى شقيقها الوحيد ألعابا وابتكارات خيالية ، اندلعتْ وقائع روايتها-الوصيّة بتشعّبات مصائرها المتشابكة، في العمق، حول كلّ من وجه كاترين أورنشاو ووجه حبيبها هيثكليف الّذي يمضي تولّهها به حدّ قولها :"أنا هيثكليف أكثر ممّا أنا" ، وكأنّما اخترقتها من بعيد صرخة المتصوّف الشّهير:"أنا من أهوى ومن أهوى أنا. . .". . .ولقد كانت إميلي متصوّفة ، وبرّيّة، ورؤوما كما تشتهي الكتابة العالية. فذات ليلة أحسّت بأخيها باتريك راغبا في قدح معتّق وليس في جيبه سنت واحد ، فقادته إلى حانة البلدة وأوقفته ببابها ، ثمّ وضعت في يده قطعة نقديّة من مذّخراتها القليلة وهمستْ في أذنه وهي تدفعه برفق وتواطؤ :"هيّا ادخل. . .أنا ثملة منذ الآن بالنّبيذ الّذي ستشرب. . .".

         3- ليل بابل اليانع البهيم

لأنَّ الشَّغَفَ هو القُوَّةُ الرّافعةُ

لحدائقك وجُدْرانك

ما وراءَ الصَّخْر المَبْهور بطُلوعك

منْ ظُلُمات السَّديمْ

ولأنَّ القلبَ هو أرْضُ ارتكازك الأولى

والحُلُمَ مُنْجبُك منْ أرْحامه السُّفلى

لنْ يَظْفرَ قُطَّاعُ طُرُق زَمَننا

في هذا القَفْر التّاريخيّ

سوَى بلَعنات الموْتَى حُرّاسك

وأنْت تعودينَ عبْرَ الصّحارى المُرْتاعة

مُتَلَفّعَةً برداء الحروق والجرَاح

إلى الضَّوء اليانع العالي

بين حافات ليْلك البَهيمْ. . .

 

         4- آرطو : متورّطٌ حدوديّ يستضيء بجبال طاراهومارا المنيفة

         إلى هاتيك الجبال ، جبال طاراهومارا المكسيكيّة ، أحَد سقوف العالم المَهيبة ، فَرَّ أنطونان آرطو سنة 1936-بعد 66 سنة بالضَّبط على فرار رامبو ، الفتى الهائل ، إلى صحارى الحبشة المُحْرقة -بعْدما تردَّتْ روحُه ، كما روح فتى شارلفيل الأشَمّ قَبْله، في الدَّرَك الأسْفل من الغُرْبة وسط فرنسا وأوروبا الخائضتَيْن آنَئذ حتَّى عُنُقَيْهما في مُستنقعاتهما الاستعماريَّة، حيثُ كانت جحافلُ جيوشهما ومُرْتزقتهما تعيثُ نَهْباً وقتلاً وحرْقاً وتدميراً ماوراء البحار المُرَّة… وكما رامبو الَّذي وجَدَ لدى بسطاء هراري إبَاءً روحيّا مُنيفاً ، ألْفى آرطو لدى قبائل طاراهومارا من الهنود الحُمْر عزَّةً كيانيَّةً مُتحَدّرَةً إليهم من تاريخهم المَجيد المُتعاقد مع القوى الكونيَّة المُتبدّية لهُمْ والنَّافذة فيهم وفي كلّ ما يُحيط بهمْ منْ صُخور ونباتات وحيوانات ونُجوم وعناصر . لقَدْ سرى تيار التَّعارُف الرُّوحانيّ سريعاً بينَه ، هُو المُحْتَشدُ بمسار هادر بالشّعر الحُدوديّ ومسْرح القَسْوة الإسْبَرْطية والهزّات العقليّة والوجوديّة والاجتراءات السياسيّة والتَّجارب الغرامية ، وبيْنَهُمْ ، هُمْ حَمَلَة رؤيا عالية ينهَضُ العالمُ فيها ، بحياته وموته وأعياده وقرابينه وآلامه ، على ركائز نشيد مُمتَدّ إليهمْ منْ ليْل الأسلاف . ألْقَوا عليه نَفْسَ النَّظرة الألوفيَّة الَّتي سَبَقَ أنْ ألْقَتْها عليه حبيبتُه أناييس نين حين كتبتْ إليْه في 18 يونيو  1933أنَّها ميَّزَتْه "كشخْص مَلَكيّ" وأنّ لحُبّهما "معنى مُتَوجّهاً إلى العُمْق حيْثُ يستوعبُ كلَّ شيء . . ." . كذلك ميَّزَهُ هنودُ الجبال الَّذين أكْرَموا وفادَتَه وأشْرَكوه في طقوس نبتة البيْتُول التَّلقينيَّة ، وخَصُّوهُ طيلة مُقامه بينهُمْ بعلائم الاعتبار الأعْمَق ، حدَّ أنَّه عنْدَ عَودته إلى فرنسا - وقبل أنْ تُودعه هذه الأخيرة مَعْزل روديز حيث سينطفئ ويموت كشهاب مُحاصَر - كَتَبَ وألْقى ، بانخطاف قياميّ أذْهَلَ الَّذين تابعوه ومنْ ضمْنهم أندريه جيد ، نصَّ le retour d'Artaud le Momo ، ونَعْت ال Momo  هاهُنا دَمْج إيتيمولوجيّ لكلمتَيْ  mome) أي الطّفل الصغير) و momie)المومياء) ، وكأنّه هُناك ، في أراضي طاراهومارا وبين شَعْبها العميق ، ماتَ وبُعث طفلاً يُناوئ مجرى الزَّمن ، ومومياء تنتظر بَعْثَها الفرعونيّ الجديد وطفولتَها الثّانية الّتي استَبَقَها في كثير من نُصوصه الَّتي تبدو بمثابة تَرْميزات بدائيَّة لولد بدائيّ يبتكر أولى أصوات العالم. . .

         5-مارلين مونرو: الفخمة الحزينة كمأساة إغريقية

ما وراء صورتها النَّمطيَّة كماكنة إغرائيَّة عابرة للقارّات - وهي الصُّورة الّتي تحالفتْ في إنتاجها وتكريسها مصانعُ هوليوود العملاقة وحياتُها الشَّخْصيَّة الهادرة - تبدو مارلين مونرو واحدةً من البوّابات السُّفليَّة المُفضية إلى القعر المُحْتَدم للولايات المُتَّحدة . مُجرَّدُ اسمها قادر على استحْضار أمريكا بأكْمَلها ، بشساعَتها ، وجُنونها ، وتَناقُض أحْشائها ، وطيْش حُلمها . له نَفْسُ القُوَّة الاستدعائيَّة الّتي للدّولار ، ورُعاة البقَر في الغرب البعيد ، وحُمَّى المُخاطرات الماليّة في وال ستريت ، وهستيريا الألّعاب في لاس فيغاس ، والامتداد المَلحَميّ لنَهْر المسيسيبي . لقَدْ أمْكَنَ لهذه الغادة ذات المسار الطُّفوليّ والمُراهقيّ المُضطرب أنْ تُحَوّلَ الاضطراب نفْسَه إلى محْوَر وُجوديّ ينْضَحُ بشُعاع نوويّ أسوَد كانتْ هي أولى ضحاياه . ذلك أنَّ جمالها القياميّ كان فخّاً لها قَبْل أنْ يَصيرَ جُرفاً مخمليّاً تَردَّتْ فيه شخصيات فنّيّة وسياسية ذات وزن فدرالي ودوليّ. مثل فراشة هائلة ، كانت الأضْواءُ الخَطرة مدارَها المغْنطيسيّ الحارق، ومن المُرَجَّح أنْ يكون ارتباطُها بأعلى رموز القرار السّياسي سببَ رحيلها المُبكّر . وفي الوَجْه المُظلم لهذا الكوْكب المُستَعر بالرَّقْص والاندفاع والرَّغائب ، كانت المُهَدّئاتُ القويَّةُ والكحوليات العنيفةُ ستائرَ تَجْري خلْفَها وقائعُ مأساة إغْريقيّة. . .

         6- راهنية "غرنيكا" ولانهائيتُها فينا

         كما أن المسرح، بالنسبة إلى آرطو، هو نهاية التمثيل، كذلك "غرنيكا" بيكاسو هي نهاية التشكيل. ليست لوْحَةً بل إحدى بوّابات القيامة. فيها وبها وضع فنّان هائلٌ مرآةً عميقةً أمام الهَوْل نفْسه كي نراه ليس بوجهه – لأنه ليس له وجه شخصيّ، بل له وجوه وُكلائه الذين هم حفّارو قبور التاريخ ولصوص الحياة وقاصفو المجتمعات والشعوب بالحديد والنّار والفقر والجهل والإجرام والتسطيح في خرائطنا القريبة والبعيدة -، بل كي نراه في ما اقترفَتْ أيادي بعض زبانيته الكُثْر من أوصال مقطوعة، وأَذْرُع مستغيثة مرفوعة، وثيران مَشدوهة، وأجساد مُجَنْدلة في ليْل وحشيّ لا يضيئه سوى وجْه المرأة حاملة القنديل، والمُطلّة –كما الآن في مُطْلَق مكاننا وزماننا-على هاوية الجحيم، وكأنّ حاملة القنديل هذه، بنظرتها الماورائية والرّئيفة، هي المنفَذُ النورانيّ الأوحد في البوّابات المظلمة للهول الكبير...

         7 – الوجه برق سحيق

الوجه ليْلُ معنى، فجْرُ إشارات

وديعة الموْتَى

منذُ سُومَر العاليهْ

واد مُعتمٌ في خارطة قديمة

واحتمالٌ ساهرٌ

ضمْن احتمالات الأرض الآتيهْ...