الكتاب

شارع الرباط

أسامة خيي الاثنين 18 أبريل 2016
شارع الرباط
2011-07-16 Rabat Balima hotel

AHDATH.INFO – خاصمصطفى الحسناوي

الناس يمخرون الأرصفة كتائهين، كل واحد يجترح طريقه أسفل الخطو الذي يحمله إلى مكان مّا، يتزاحمون، يتدافعون بالمناكب، يمرون كأن كلا منهم على موعد مع زلزال مّا في شرخ تحت أرضي، في الأعماق الصامتة للقاءات المدلهمة حيث يتحلقون، ربما، حول نارّ مّا يولمونها كوارث الغياب التي تنخر حيواتهم الصدئة. يمرّون في الشارع الوحيد، الحياة/حيواتهم تبدو كمنفى متعدد، صارم، عصي على الفهم والتأويل. من يستطيع تأويل زلزال مّا مهما صغرت درجاته على مقياس رشتر؟. لو أن كل الزلازل كانت قابلة للتأويل لتحوّلت الحياة إلى مقبرة شاسعة، وصارت الأحداث، الوقائع، الحكايات شبيهة بسلام القبور. تبدو الرباط مثل أرصفة متراصة يسير فوقها الناس، بينما يقتعد البعض الكراسي في أمكنة أخرى في انتظار الزمن. أمام رصيف مقهى باليما المرأة الخمسينية ذاتها جالسة كما كانت منذ سنوات تغني، وهذه المرة اختارت أغنية: "أش دّاني ولاش مشيت".

المرأة تغني غير عابئة باستقامة اللحن ولا بصوتها النشاز. بجوارها تربض سيارة محملة بالبوليس في انتظار الانبجاسات المباغتة لاحتجاجات المعطلين من حملة الشهادات أو الشواهد، الإسم في حدّ ذاته لا يهم وفي الحديقة المقابلة للبرلمان أقيمت نصب حديدية علقت فيها صور لأماكن في الرباط في سياق الاحتفال باختيارها إرثا للإنسانية. الناس يسيرون مثل الزومبي. أغلبهم لايتبين جيدا موقع قدميه، يحدث أن يدفعك أحدهم حتى يكاد يلقي بك أرضا، ثم يتابع طريقه غير آبه بالاعتذار، أو يجبرك آخر على ترك الطريق له وحده. داخل هذا الفضاء الاعتباطي تنعدم كلية قواعد اللياقة أو الكياسة الاجتماعية. المتسولون الأفارقة يملأون الزوايا، أمهات شابات يجلسن متكئات إلى الأعمدة وبجوار كل واحدة منهن طفل يلهو، يرتجلن عبارات الاستجداء بدارجة مغربية مكسرة، يصوبن نحو العابرين النظرات المحبطة لكائنات مهزومة هاربة من مصائر دموية إلى مصائر غامضة، من حياة مهددة إلى حياة مشوهة، هشة، من انعدام الحياة إلى ما يشبه الحياة، قد يعيشون هنا سنوات ويتناسلون وقد يقضي السواد الأعظم منهم حيواته على الأرصفة يتسول ومن عينيه تندلق ذات النظرات المسكونة بهزائم لا حدّ لها. بعض هؤلاء المهاجرين الأفارقة انخرط في التجارة على الأرصفة يبيع ويشتري في كل شيء، من عملة الأورو الوهمية إلى المنحوتات والتماثيل الإفريقية مرورا بالهواتف الصينية السريعة العطب إلى سلع أخرى غامضة.

الأشخاص في مناطق ومدن أخرى يقولون: (ناس الرباط) في تعبير مليء بالكليشيهات والأحكام الجاهزة كأنهم يتحدثون عن كائنات في قارة أخرى، لكنّ اللافت للنظر هو أن الكل يذهب (أو يطلع) للرباط لا مرّة واحدة بل مّرات عديدة في حياته، لأن كل وثائق مسيرته المهنية هناك، في ذلك المركز الحضري الشديد التمركز إداريا وسياسيا بالرغم من كل دعاوي الجهوية الموسعة أو المنتشرة أو ما شئت من الأوصاف والنعوت. لذا تبدو الرباط شبيهة باسم يشير إلى مركز كافكاوي غامض، مثل الفضاءات البيروقراطية العميقة الالتباس التي انبجست من متخيل كافكا في (المحاكمة) وقصة (معسكر العقاب) وغيرهما.

تذهب للرباط لأن هناك عطبا مّا طال مسارك المهني، تذهب فقط لأنك على موعد/مواعيد مع كوارثك الوجودية الصغيرة، كأن يوقفوا تحويل أجرتك الشهرية، أو يجبروك على إنجاز وثائق إضافية للمرة الألف حتى لا تنمحي كلية من ذاكرة إدارة متحجرة متكلسة يشرف عليها أشباه كائنات آلية بدون أدنى حس إنساني. تذهب إلى هناك حتى لا يطالك النسيان الفاجع. لهذا يتهيب الكثيرون في مناطق وأصقاع المغرب النائية من مجرد التلفظ باسمها. المرأة ذات اللكنة والملامح الفاسية التي تقضي حياتها فوق رصيف مقهى باليما بعدما جنت وأصيبت بلوثة الغناء، أتذكر بأنني رأيتها وسمعتها منذ سنوات تحتج حاملة أوراقا إدارية مدموغة في أمر مّا من الأمور التي تحوّلت معها الرباط في ذهنها إلى برشيد أو بويا عمر. الناس يخبون على الأرصفة، يخترقونها في شتى الاتجاهات في كل الأوقات. يبدو شارع محمد الخامس مثل نهر دائم الجريان، ركح فوقه تنعلن الأجساد والسلوكات وتتناسل التعليقات والخطابات، ركح مسكون بالغفلية ‘l’anonymat لأن الذين يتلاقون فوقه لا يعرف أي منهم الآخر.

كل المصائر تنعلب هنا فوق هذا الركح المحايد الذي يجسده الشارع، الحيوات المشوهة والمعطوبة، وتلك المتعجرفة المتباهية ببذلاتها وأكسسواراتها، والحيوات المرمية على الهامش والمهملة، وتلك التي تقاوم من أجل موطئ قدم تحت الشمس، كل حياة تجترح طريقها، تنحت موقعها من الموقع الأكثر تجذرا إلى الأكثر هشاشة. كل شيء موزع بالكثير من الحيف وانعدام المساواة: الغنى والثراء والجاه والمكانة الاجتماعية والمنصب من جهة والبؤس وخمول الذكر والفقر والعطالة الاجتماعية والتهميش القاسي من جهة أخرى.

إنه ركح قاس بارد الإحساس لا يعرف أنصاف الحلول. فوق هذا الركح (شارع محمد الخامس) لا يسع الملاحظ سوى معاينة ذلك الحضور اللافت للنظر والمهيمن بقوة للعميان في المنعطفات وأمام واجهات المتاجر بجوار الأعمدة الضخمة وأسفل الجدران، عميان متناثرون يعاينون الفراغ بأعينهم المطفأة يحملون صناديق خشبية، يشهرونها أمام العابرين، صناديق تحمل دعوات لمساعدة مكفوفين معطلين، أو أرباب عائلات وتحمل أدعيات وكلمات شكر.

يبدو العميان كما لو أنهم هناك فوق ذاك الركح الهلامي رابضون منذ الأزل ما بدّلوا من حركاتهم وإيماءاتهم شيئا، كأنهم أطياف ضالة في عالم إشكالي تربض في فراغات الشارع وامتلاءاته لتحرس الأبدية، لتحرس كل الهشاشات العنيفة والمحيرة التي تطال الوجود. تذكرت الفصل الذي كتبه إلياس كانيتي عن العميان في كتابه (أصوات مراكش)، حين شاهدهم في جامع الفنا وسحرته هيئاتهم المراوحة في المكان طيلة النهار كتماثيل فرعونية وترديدهم الدائم على مدار الساعات لكلمة "الله" في أدعياتهم ولغتهم الاستجدائية كل وجود العميان اندغم في الكثافات الغامضة لتكرار انخطافي يكاد يرقى إلى معنى من معاني الوجود أو سر من أسرار الكون، تكرار للكلمة ذاتها التي تبدو للسماء كأنها المقياس الإلخيميائي لمعادلة ذات غرابة مقلقة. حين عاد إلياس كانيتي لمنزله في فيينا كما كتب في الفصل ذاته، ظل مسحورا منخطفا بمشاهداته لعميان مراكش فكان يغلق على نفسه مكتبه ويطفئ الضوء ويظل مراوحا في مكانه لساعات، يكرر الكلمة ذاتها ليختبر كل تلك الأقاصي البالغة النأي، للإقامة الدائمة في العتمة كما عاينها في مدينة البهجة. دوما حين أعبر الشارع وأراهم رابضين في أماكنهم المعتادة أتذكر رواية الروائي الأرجنتيني الباذخ إرنستو ساباتو (أبطال وقبور)، وخصوصا ذلك الفصل المقلق الغرابة الذي يتوسطها (تقرير حول العميان) حيث يصورهم كما لو أنهم طائفة غامضة تعيش فوق الأرض وأسفلها في المغاور والفجوات السفلية للعاصمة بوينس ايرس، ويتحدث عنهم ككائنات تنتمي لفصيلة ذوات الدم البارد مثل العظايات والزواحف والأفاعي وغيرها. العميان يقفون هناك كأنهم شهود على خراب مّا أو كوارث مّا، كأنهم شهود لا أحد يشهد لهم، يبيعون مناديل ورقية، يتسولون صامتين، تعبر قبائل الزومبي أمامهم دون أن تراهم. كلما مررت بجوارهم في زياراتي لتلك المدينة القاسية والمحايدة كلما تذكرت بيت المعري (أنا أعمى فكيف أهدي الناس والناس كلهم عميان).

ما الفرق بين الشارع الرئيسي في الرباط والصحراء؟ قد تبدو الإجابة بديهية لكنها ليست كذلك، إذ لا فرق بينهما فإذا كان الشارع آهلا بقبائل الموظفين والفضوليين والكائنات الغامضة الأخرى التي تعبره، أو تسكنه وتقيم فيه يوميا فإنّ الصحراء أيضا آهلة بقبائل رحّل بالرغم من شساعة الفراغ. لا فرق بين صحراء الحياة اليومية والصحراء الرملية المترامية الأطراف حيث نجد الأطياف ذاتها في المكان مع اختلاف في اللباس والعادات وأنماط العبور.

ألوذ بمقهى طنجة، هاربا من وعثاء التيه، أجلس أطلب مشروبا. أحدهم يشغل في الجوك بوكس أغنية (سولت عليك العود والناي...). هنا وسط هذه الجدران المحايدة والمقرفة تبدو الرباط قريبة بعيدة، قريبة عن بعد، وبعيدة عن قرب كما في إحدى مواقف النفري. تكتشف بأن المدينة أشبه باستعارة أو كناية أو خديعة كبرى وأن الناس يستوطنونها، كما تستوطن القبائل الرحل وتحتل المكان في قصة (سور الصين العظيم) لفرانز كافكا. المدينة في العمق ليست أكثر من ترجمة للكثافات الوجودية لساكنتها، تماما كالمدن كلها، ولا فرق هنا بين الرماني وميدلت وواد لاو والرباط. لذا توغل الرباط في غياب مسكون بجلبة حضور زائف.