الكتاب

غرفة باردة.. (مسرحية من فصل واحد)

أسامة خيي السبت 14 مايو 2016
غرفة باردة.. (مسرحية من فصل واحد)
BV

AHDATH.INFO خاص - أنس الحجاجي

[حين تقهرني العزلة أتحدث مع نفسي، يسمى هذا مونولوج.]

الشخصية : رجل في الثلاثين أو الأربعين أو الخمسين من العمر، لا يهم، يرتدي قميصا أبيض، ربطة عنق سوداء وسروال أسود. وبطبيعة الحال، ينتعل حذاء. الحذاء ليس أسودا، إنه أبيض.

المكان : غرفة أرضية.

الزمان : الليل.

(إضاءة. رجل يجلس وسط الخشبة واضعا رجلا على رجل ويتكيء بمرفقه الأيمن على مائدة. فوق المائدة هناك قنينة نبيذ أحمر وكأس مملوءة. يشرب الكأس دفعة واحدة ويضعها بقوة في وسط المائدة.)

الرجل : هل يمكن لشخص أن يعيش طيلة حياته محتفظا بسر دون أن يبوح به إلى أحد؟ (بعد صمت قصير) لا أدري... أعني، هل يستطيع أن يحتفظ بسر لا يبوح به حتى إلى نفسه حين يكون لوحده؟... هذا ما يحدث معي... أنا دائم الصمت... نعم، دائم الصمت مخافة أن يكون هنالك من يتنصت علي. (بعد صمت قصير) أنا أسكن في هذه الغرفة لا يتقاسمها معي أي أحد...قررت أن أعيش وحيدا. (بعد صمت قصير) أحمل في جوفي سرا... سر رهيب عمره عشر سنوات... نقطة ضعفي الوحيدة هي الشراب، أحب طعم الخمر القوي. (بعد صمت قصير) في الحقيقة، لا يمكن تسميتها نقطة ضعف لأنني أتحكم جيدا في نفسي... أنا أشرب من باب التحدي الذي أرفعه دائما ضد نفسي كي أعرف درجة مقاومتي... يقولون إن الشراب يجعل المرء يتكلم... أنا أشرب ولكن لا أتكلم. (بعد صمت قصير) كل ليلة، أشرب إلى حد الثمالة... أشرب قنينة كاملة... نعم، نعم، قنينة كاملة كل ليلة ولكنني لا أثرثر... أخلد إلى النوم، هذا ما أفعله حين أفرغ القنينة في بطني. (بعد صمت قصير) ولكن قبل النوم، أحرص على تشغيل المسجلة التي أضعها قرب رأسي لأرى إن كانت هناك كلمات تفلت مني خلال النوم... لا شيء. (بعد صمت قصير) حين أستيقظ في اليوم الموالي، أعيد الاستماع إلى التسجيل فلا أعثر سوى على الصمت... في أحسن الأحوال، أسمع شخيري... هكذا أقضي يومي، أستمع إلى تسجيل نومي كاملا. (بعد صمت قصير) رغم الشراب وتأخري في النوم، أستيقظ باكرا في الصباح... أستيقظ بآلام حادة في رأسي... أشرب الأسبرين، أشرب القهوة التي أحضرها في مطبخي الصغير، أجلس هنا كي أدخن خمسة سجائر متتابعة ولكن الألم لا يذهب. (بعد صمت قصير) أول شيء يتبادر إلى ذهني حين أفتح عيني هو السر... عشر سنوات... عشر سنوات وكل يوم، أحمل على ظهري هذه الصخرة... ويبدو أن نهاية هذا العذاب ليست قريبة... الأيام تتوالى ولا شيء جديد يأتي. (بعد صمت قصير) أنا لا أخرج من هذه الغرفة إلا للضرورة القصوى... لا أتجول في أزقة المدينة كما لا أجلس في المقاهي مخافة أن ألتقي أحدا يعرفني... في نهاية كل شهر، أخرج لسحب راتبي وشراء كل ما يلزمني لشهر كامل ثم أعود أحبس نفسي بين هذه الجدران الأربعة. (بعد صمت قصير) كنت قديما مهووسا بمطالعة الجرائد... لم أكن أفوت أي عدد، طيلة الأسبوع... لكن اليوم، صرت مهووسا أكثر بمراقبة نفسي... حين رأيت أن نفس الأخبار تتكرر في الجرائد قلت في قرارة نفسي من الأفضل أن أوفر ثمنها وبه أشتري السجائر... ما كنت أحبه في الجرائد هي الملاحق الثقافية... كنت أحب قراءة القصائد والقصص القصيرة التي كانت تنشر... أنا كذلك كتبت مجموعة من القصائد والقصص، بعضها قصيرة وأخرى طويلة، لكن لم تنشرها أية جريدة من الجرائد التي راسلتها. (بعد صمت قصير) أصابني الإحباط، لم أعرف أبدا لماذا لم ينشروا أعمالي غير أنني بقيت أكتب باستمرار... وعلمتني الكتابة أن أراقب نفسي أكثر... كل ما أكتبه أعيد قراءته عشر مرات... نعم، عشر مرات ثم أجمع نصوصي في ملف أحتفظ به بين قنينات النبيذ... لا أتذكر أنني مزقت يوما نصا كتبته، أنا راض عن كل نصوصي لأنني لا أكتب إلا بعد أن تتشكل الفكرة نهائيا في عقلي. (بعد صمت قصير) اللعنة، اللعنة... أشعر بالعطش. (يفتح قنينة النبيذ الأحمر ويسكب كأسا ثم يشربها دفعة واحدة. يضع الكأس الفارغة بقوة في وسط المائدة) الليل طويل ولكنه لا ينتهي... حتى حين تبزغ الشمس ويطلع نهار جديد فإنني لا أشعر به... أحس بأن الليل ما زال يرخي سدوله على كل أرجاء المدينة... اشتقت إلى المدينة ولكنني لن أخرج. (بعد صمت قصير) بصراحة، لماذا الخروج؟ أنظر إلى هذا العالم ولا أجد فيه شيئا أستطيع أن أحبه... الناس... حين أنظر إلى الناس أشعر بالخوف، خصوصا حين يكونون فرحين... أنظر إليهم والحياة تتدفق منهم فألمح نهايتهم مثل طيف أسود فأخاف... أظن أن كل الأشياء الجميلة في الحياة تخيفني، لا أتحمل رؤية نهايتها... لهذا السبب، اخترت العزلة... على الأقل، لن أحزن على فقدان صديق عزيز أو حبيبة... أراقب نفسي وأشرب وأدخن وأكتب وأنام... كل هذا أشياء بسيطة، لكنها الحياة. (بعد صمت قصير) كنت على وشك الزواج، لكننا اختلفنا بسبب هذه الغرفة... قالت لي إنه علينا اختيار بيت أكبر... قلت لها إذا كنت تحبينني حقا فعليك أن تعيشي معي في هذه الغرفة... لم توافق، فضلت علي البيت الكبير فكانت القطيعة... في واقع الأمر، مسألة البيت لم تكن سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد... لقد بدأت أفكر في قطع علاقتي معها قبل ذلك بكثير... ذات يوم، كنا جالسين في مقهى وقالت لي بأنها تشعر بأنني أخفي عليها سرا كبيرا... بطبيعة الحال، ابتسمت ابتسامة بلهاء وقلت لها إن حبك هو سري الكبير... كنت أحاول تغيير الموضوع، لكن الشك كان قد نجح في التسلل إلى قلبي وهو ما لا أقدر على تحمله... السر ثقيل والشك أثقل... إنني أئن تحت وطأة السر فإذا أضفت إلى صخرتي وزن الشك فستكون تلك نهايتي لا محالة. (بعد صمت قصير) هكذا أفضل، بالعزلة يعيش الإنسان طويلا ويضمن أن السر سيبقى محفوظا.

(يسكب كأس نبيذ أخرى ثم يشربها دفعة واحدة. يضع الكأس بقوة في وسط المائدة. صمت طويل. يبدأ الضوء في الخفوت تدريجيا إلى أن تغرق الخشبة في ظلام كامل.)