الكتاب

لعبة الظلال.. (قصة قصيرة)

أسامة خيي السبت 14 مايو 2016
لعبة الظلال.. (قصة قصيرة)
PF

AHDATH.INFO خاص عبد اللطيف النيلة

  في مساء غائم، اعترض لصان طريق امرأتين كانتا تسيران في شارع فرعي تحفه الأشجار من الجانبين. من فرط ارتعابهما، تخلتا عن حقيبة يد وهاتف ذكي وحافظة نقود ولوح إلكتروني. أسلم اللصان ساقيهما للريح وصياح المرأتين يلاحقهما، وانعطفا يمينا ليتسللا إلى المقبرة القديمة.

     كان "ك" يقف بقميصه الأسود وبنطاله الأزرق أمام قبر مضت على وفاة صاحبه أربعون يوما، فيما هو يخاطبه بصوت مسموع: "لماذا نبذتني دون غيري؟ لِمَ حبستني داخل تلك القاعة؟ لماذا.........؟".  بغتة، خرج عليه اللصان ملوحين بخنجريْن كبيرين. ولأنه أبى أن يتنازل لهما عن حافظة نقوده وهاتفه المحمول، فقد هجما عليه صارخين في وجهه، وقد تناثر من بين شفاههما زبد السِّباب. طرحهما أرضا حتى ارتطم رأس أحدهما بشاهدة القبر، وتطاير خنجراهما في الهواء، بضربات كاراطي ضارية بارعة. إثر ذلك أقبل رجال الشرطة مشهرين سلاحهم...

     لم يلبث اللص الذي ارتطم رأسه بشاهدة القبر، أن لفظ أنفاسه في غرفة الإنعاش بالمستشفى. فوجد "ك" قدميه غائصتين في ورطة: شهد عليه اللص الآخر بأنه زعيم العصابة، ولم يصدق المحققون أنه كان في حالة دفاع عن النفس، واتهموه بالضلوع في إنشاء عصابة وترويع الناس، وأقحموه في سائر الجرائم التي اقترفها اللصان. غاصت قدماه أكثر فأكثر حين حيّرت المحققين أجوبتُه حول هويته:

     - ما اسمك؟ - "ك". – الاسم الكامل؟ - "ك". - ما هذا الاسم الغريب؟ - ...! - وما اسم أبيك؟ وما اسم أمك؟ - لا أدري! - أين تسكن؟ - ببساط رياضة الكاراطي. - أنت تهزأ بنا دون شك.. هل هناك من يسكن بساطا؟ - ...! - ماذا تعمل؟ - ألعب الكاراطي.

     ضحكوا رغم إحساسهم بالغيظ، وسايروه:

     - طيب أين توجد قاعة رياضتك؟ - لا أدري! - لكنك تعرف مسقط رأسك طبعا؟ - كلا... - لا شك أنك خائف من انكشاف أمرك، ما دمت تخفي بطاقة هويتك.. - ...! - وأذكى طريقة للجواب هي النفي أو الصمت. - ...!

     انفجروا غضبا، وقذفوه بتعليقات ساخرة...

     بعد أن تأكدوا من سلامة عقله وذاكرته، جرب محقق حاذق أن يعاود استنطاقه، فلطم وجهه بنفس الأجوبة. حاول مناقشته بالمنطق:

     - هل يعقل أن يوجد شخص سَوِي يجهل اسم والديه ومسقط رأسه ويدعي أن اسمه "ك"؟ - اطرح هذا السؤال على السيد الكاتب. - أي كاتب؟ - مؤلف رواية "لعبة الظلال". - وما علاقته بذلك؟ - هو من تخيلني؟ - غير معقول!! - ارجع إلى الصفحة 57.. وسترى..

     بعدما صدر الحكم النهائي في حق "ك" وزُج به في السجن، خطر اسم الرواية المذكورة ببال هذا المحقق، فيما كان يتجول ذات صباح بين رفوف أكبر مكتبة بالمدينة. اقتنى الرواية التي كانت من الحجم القصير، وذهب إلى ركن قصي ليلتهمها بسرعة على رشفات فنجان قهوة. في الصفحة 57 قرأ، بدهشة، العبارة التالية: "في اللحظة التي كانت تجري فيها مباراة بين الفريقين الإسبانيين الشهيرين، لم يكن ببساط الرياضة أحد سوى "ك"، وهو رجل أسمر مفتول العَضَل، يرتدي كيمونو أبيض. كان مستغرقا في أداء تقنيات فن الكاراطي، ببراعة لافتة. وفي إحدى زوايا القاعة كانت تجثم حقيبة جلدية". لم تنطوِ صفحات الرواية على أي إشارة أخرى إلى "ك". عاد المحقق إلى ملف القضية، فاكتشف مبهورا أن اسم صاحب القبر الذي وقعت الحادثة بالقرب منه، هو نفسه اسم كاتب الرواية.

     ظل الشك يراود المحقق: لا يعدو هذا الرجل أن يكون مجرد مخادع، لقد كان يعرف الكاتب من قبل وقرأ روايته، فعلقت بذاكرته تلك الشخصية الروائية...

     مضى إلى "ك" في زنزانته، محاولا للمرة الأخيرة استجلاء سره. لاحظ، وهو يحادثه من وراء القضبان، أن المدة التي قضاها لحد الساعة في السجن، قد أنحفت جسمه وأطفأت نضارة وجهه مُسبغةً على قسماته مسحة الهم. وعبثا حاول استدراجه للاعتراف بخداعه. باستماتة، تشبث "ك" بأقواله، مفصحا عن كونه لم يغادر صفحته بالرواية إلا ليوسع حظه من الحياة، هو الذي لم يُمنح غير حياةٍ بحجم عبارة. قذفه المحقق بالرواية يأسا، وانصرف إلى باحة السجن لتدخين سيجارة.

     لم تمض إلا دقائق حتى لحق به الحارس ليخبره بأن الرجل تبخر في الهواء.. اختفاء "ك" بلبل تفكيره. كانت الزنزانة محكمة الإيصاد، كُوَّتهُا في أعلى الجدار بقضبان حديدية لم تُمس بسوء. عَدا الفِراش، لم يكن ثمة في الزنزانة سوى رواية ملقاة على الأرض، وحقيبة جلدية. فتح المحقق الرواية على الصفحة السابعة والخمسين، وبحث عن العبارة التي كانت ماتزال تتصادى في ذاكرته، فعثر عليها: "في اللحظة التي كانت تجري فيها مباراة بين الفريقين الإسبانيين الشهيرين، لم يكن ببساط الرياضة أحد حتى "ك"، الرجل الأسمر المفتول العَضَل، الذي كان يرتدي كيمونو أبيض، والذي كان يستغرق في أداء تقنيات فن الكاراطي، ببراعة لافتة". أعاد قراءة العبارة مرارا، وقد استبد به الذهول: قطعاً تحولت العبارة! لكن أين ذهب "ك"؟ ساوره احتمال مفزع: ماذا لو عاد وبصحبته كل شخصيات "لعبة الظلال"؟

     فجأة التمعت في ذهنه الحقيبة الجلدية التي كانت-في العبارة الأولى- تجثم في إحدى زوايا القاعة الرياضية. التفت تواً إلى الحقيبة التي كانت وسط الزنزانة، وتذكر أنه لم يسبق له أن رآها مع "ك"، وسأل الحارس ورجال الشرطة الذين كانوا الآن في حالة استنفار قصوى لمعرفة كيف تمكن من الفرار، فأجابوه جميعا بأنه لم يكن يملك أي حقيبة. فتح المحقق الحقيبة الجلدية، فوجد داخلها كيمونو أبيض، وصندلا، وأوراقا.

     ... قرأ في أول ورقة: «في مساء غائم،... كان "ك" يقف بقميصه الأسود وبنطاله الأزرق أمام قبر مضت على وفاة صاحبه أربعون يوما، فيما هو يخاطبه بصوت مسموع: "لماذا نبذتني دون غيري؟...»، وقرأ من الصفحة الثانية: «جرب محقق حاذق أن يعاود استنطاقه، فلطم وجهه بنفس الأجوبة... خطر اسم الرواية المذكورة ببال هذا المحقق، فيما كان يتجول ذات صباح بين رفوف أكبر مكتبة بالمدينة... في الصفحة 57 قرأ، بدهشة، العبارة...»، ومن الصفحة الثالثة قرأ: «لم تمض إلا دقائق حتى لحق به الحارس ليخبره بأن الرجل تبخر في الهواء... فجأة التمعت في ذهنه الحقيبة الجلدية... فتح المحقق الحقيبة الجلدية، فوجد داخلها...».

    ولما استل، على نحو اعتباطي، ورقة أخرى، قرأ فيها ما هو آت... أخذته قُشَعْريرة، رشَح جسمُه عرقا باردا، وشعر بالدوار. لم يستطع مواصلة القراءة، وخُيل إليه أنه مجرد شخصية قفزت إلى العالم من صفحات رواية.