بورتريه

سعيد التنور : درس الحب الأبدي

سعيد نافع الثلاثاء 12 يوليو 2016
said- tannour
said- tannour

AHDATH.INFO - خاص - سعيد نافع

 

يستحيل رسم بورتري خاص لسعيد التنور، رائد المسرح الذي تركنا وترك العالم في غفلة على إثر حادث صحي طارئ قبل أسبوعين، خارج مفهوم الحب بمعانيه الكبيرة . حب الفن والمسرح وعشق الخشبة والركح حد نكران الذات . حب التلاميذ المتكدسين في القسم في ثانوية عبد الرحمان بلقرشي في سيدي عثمان، وتفانيه في تدريسهم وزرع قيم الحب والفن والخير والجمال فيهم . حب زملاء التجربة المسرحية والفنية، والتأسي لمآسيهم والفرح لفرحهم وتقاسم تفاصيل الحياة اليومية معهم في الضراء قبل السراء . حب الأسرة الصغيرة والكبيرة واستمداد الأمل في الحياة والعمل من معترك معيشهم اليومي . حب الناس، البسطاء قبل الحافلين بالثنايا المتعددة الأبعاد . حب الوطن الكبير : المغرب. حب الإنسان باختصار .

سعيد التنور لم يكن فنانا متسولا، ولا خارقا في تشكيل شبكات الإعلاميين وسمساسرة الأخبار حول شخصه العادي والفني . سعيد كان مؤمنا برسالته فقط ومبتعدا عن كل الأضواء أو الضوضاء أو الجلبة، التي يرتادها أشباه الفنانين سرا وعلانية . اثناء الإعداد للمسرحيات التي شارك فيها من خلال تجربته مع ‘‘ لواء الإبداع ‘‘ لمخرجها الرائع الآخر بوسرحان الزيتوني، كان سعيد أول الحاضرين وآخر المغادرين، موطدا علاقته القدسية بالركح في تفان نادر. كان البطل الحقيقي للمسرحيات التي لعب فيها أدوارا خاصة، إلى جانب بقية الزملاء، لكنه كان متواضعا في تقديم نفسه بينهم، متواريا عن الأنظار في لحظات التكريم، متأففا عن الظهور أو حجب الرؤية عن الآخرين . كان أول المهنئين في نجاحات الآخرين، وهي ميزة دلت على خلق كرين وشبع نفس، للأسف ما فتئ ينحسر عن عالم الفن، والعالم بشكل عام في زمن الماديات الرخيص . تقمص شخصياته في تماه نادر، وكان ممثلا بعينيه وجسده وطريقة إلقائه، وحركاته ... كان ممثلا بكل معنى الكلمة .

الراحل المرحوم سعيد التنور رأى النور العام 1960 بحي سباتة بالدارالبيضاء. الحي الذي نهل منه معاني الثقافة الشعبية من تفاصيل معيشه اليومي، قبل أن الثقافة العالمة التي سافر الراحل في بحورها منذ سن يافعة . اشتغل بالتعليم بعد مسار دراسي متميز، وتدرج عبر أسلاكه المختلفة قبل أن يحط الرحال بالمستوى الثانوي، حيث انخرط في علاقة رائعة مع التلاميذ والطلبة بشهادتهم شخصيا، وشهادة زملاء العمل . هي نفس علاقة الحب درجة التماهي مع التلاميذ، التي نسج سعيد التنور خيوطها مع كل الناس، قبل أن يعين ناظرا في ثانوية عبد الرحمان بلقرشي، ليكون هذا المنصب آخر عهد لسعيد بالاشتغال في سلك التعليم .

المقربون جدا من سعيد التنور يؤكدون أن القاسم المشترك من سعيد لكل البشر هو الابتسامة الصادقة العفوية والتلقائية. يلقيها في وجه الحاضرين مهما اختلفت مشاربهم المهنية والاجتماعية، ومهما اختلف معهم أيضا . سعيد كان صديق الجميع، حسب رواية الفنان الموسيقار ورفيق دربه الأستاذ عبد الحق تيكروين، مؤلف موسيقى العديد من المسرحيات التي شارك فيها الراحل. يقول عبد الحق ‘‘ لم يختص سعيد التنور أحدا بطيبته وخلقه الجميل، لقد كان مفتوحا على كل الناس، وكان يسارع لاقتسام لحظات السعادة مع الجميع دون استثناء. أكثر من ذلك، كان سعيد يحتفظ بمعاناته وألمه لنفسه فقط، ولم يكن من النوع الذي يظهر ما يعتريه من أحاسيس أو مشاعر سلبية، ولو تعلق الأمر بمعاناته مع المرض مثلا ‘‘. ولعلها السمة التي جعلته محبوبا لدى الجميع، فحتى أواخر أيامه وفي عز معاناته مع المرض المفاجئ لم يكن محيطه القريب يعلم ما يعتمل في أحشائه. لقد أصر سعيد التنور على الاحتفاظ بألمه لنفسه .

التجربة المسرحية والفنية لسعيد التنور كبيرة وتعود لأربعة عقود كاملة، ويعتبر من الأعضاء المؤسسين لفرقة ‘‘ فضاء اللواء للإبداع ‘‘ بمعية ثلة من كبار الفنانين والمسرحيين والكتاب. تجربة جايل من خلالها موجات مختلفة من الممثلين والموسيقيين والأدباء، وتميزت بأداء أدوار شخصيات ما تزال عالقة بالأذهان لا يسعنا هنا أن نقف عندها لاتساع وشساعة التجربة الفنية للممثل المبدع الراحل . في مسرحية ‘‘ الريح ‘‘ للكاتب الأرجنتيني خوصي تيريانا التي اقتبسها ومغربها المبدع بوسرحان الزيتوني أدى سعيد التنور دور الأخ الأكبر، في رواية قاربت مفهوم قتل الأب في منحى إبداعي يمزج الحقيقة باللعب، وشاركه فيها البطولة زملائه ورفاق دربه الممثلان الرائعان كمال كاظمي ومحمد الحبيب البلغيثي . في مسرحية ‘‘ الجمرة ‘‘ التي تناولت موضوع الاستيلاء على أراضي البسطاء، أدى التنور دور رجل مقهور تكالبت عليه دوائر الزمان وفقد أرضه دراء استيلاء ‘‘ الطراف عليها ‘‘ فيما ستبكيه باقي شخصيات العمل في أغنية حزينة نسج إيقاعها المتميز عبد الحق تكروين أيضا . في ‘‘ الترانزيت ‘‘، واحدة من أهم وأعمق أعمال فرقة اللواء، لعب سعيد التنور دور الأب المحترق بين رعاية صغاره الأربعة وهم الخروج من بلاد إلى أخرى بغية البحث عن مكان تحت الشمس في عالم لا يرحم. مسرحية مزجت  روعة الهم الوجودي المغرق في الدراما بملكات الفكاهة الخاصة لدى ممثلي الفرقة، حين يعثر الأب على صندوق يحتوي على ملابس قديمة لشخصيات مهمة في الدولة، سرعان ما سيتقمصها الممثلون، ليتحول المشهد لسريالية مغرقة في الهزل العميق والأسود، حول الرغبة في الحكم وصراع الدوائر العليا .

مهما سنتذكر عن سعيد التنور لن نوفيه حقه . حب الناس ممن صدموا في رحيله المفاجئ المعبر عنه تلقائيا في مجامعهم الخاصة أو على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي أفضل رد على هذا الرحيل الذي مر في صمت . أعماله الخالدة وتفانيه الفريد في خدمة الفن والزملاء ستظل شواهد على مرور إنسان كبير في هذا العالم . له الرحمات، ولأهله الصبر والسلوان، ولزملائه كمال كاظمي ومحمد الحبيب البلغيثي وأمين الناجي وعبد الحق تيكروين وبوسرحان الزيتوني وعبد الفتاح النكادي والآخرون ممن لا يسع ذكرهم هنا ... الكثير الكثير من العزاء .