مجتمع

يونس التايب:مواجهة كورونا مكتسب قد يتيح عصرنة شاملة لتدبير الدولة للخدمات بعيدا عن الاستغلال السياسوي

سكينة بنزين الأربعاء 15 أبريل 2020
PhotoEditor_20190320_230908544
PhotoEditor_20190320_230908544

AHDATH.INFO - حاورته سكينة بنزين

واقع جديد جرف الجميع نحو إجراءات غير مسبوقة في العالم منذ ظهور كورونا، ولحسن الحظ كان المغرب من بين الدول السباقة لاتخاذ عدد من التدابير التي جنبت المغاربة الكارثة وفق تصريح عدد من المسؤولين المغاربة. عن تأثير هذه التدابير مرحليا، وتداعياتها المستقبلية يحدثنا يونس التايب، مستشار في الحكامة والإدماج الاجتماعي والاقتصادي، من خلال استحضار معطيات يتداخل فيها البعد الرقمي، بالجغرافي، بالسياسي، والاجتماعي ...

بعد مرور أسابيع من اتخاذ المغرب لتدابير مواجهة كورونا، ومقارنة بالتدابير التي وصفت أنها متأخرة في باقي الدول، كيف ترى كمستشار في الحكامة هذه الخطوات وانعكاسها على حصيلة الحالات المسجلة؟

 

أعتقد أن الدولة المغربية كانت في الموعد عبر رد فعل تميز بالاستباقية و بنظرة شمولية أحاطت بالموضوع من عدة زوايا. وهو ما تجلى في كل القرارات المتدرجة و القوية التي يمكن أن نصنفها في خانة التدبير الاستراتيجي للأزمة.

أعتقد أن ما أحدث الفرق بالنسبة للحالة المغربية في مواجهة الجائحة الوبائية هو أن رد الفعل ارتكز على محاور متعددة و متكاملة : المحور الوقائي الصحي ؛ محور تعبئة الموارد المالية والمادية عموما؛ محور ضبط المجال و تأطيره بحسب مقتضيات حالة الطوارئ الصحية؛ محور إجراءات المواكبة والدعم الإقتصادي و الإجتماعي ؛ محور الإعلام و التحسيس والتوعية.

أعتقد أن استحضار كل هذه الأبعاد أعان بلادنا على تحقيق جزء كبير من الأهداف المسطرة منذ الأيام الأولى، بشكل تجاوز التوقعات، و أبان عن وجود طاقة مادية و نفسية لدى الدولة و المجتمع على حد سواء، برزت خلال وقت الشدة. وهذا لا يحصل سوى في حالة الدول و الشعوب التي تصنف على أنها عريقة حضاريا.

بطبيعة الحال، في واقع استثنائي لا يمكن انتظار تحقيق نسبة مائة بالمائة من الفعالية. هذا غير ممكن ولا يوجد في أي مكان في العالم، وقد شاهدنا التخبط الذي حدث في دول متقدمة كنا نحسبها متماسكة بشكل كبير إلى أن تبث العكس. من المهم أن نأخذ في الاعتبار نسبية الإمكانيات التي كانت صالحة للزمن العادي و ليس لوقت الأزمة المفاجئة. كما علـينـا أن نستحضـر نسبيـة استيعـاب بعـض الناس للموضوع أساسا، و احتياجهم لوقت طويل كي تتضح لهم الصورة كاملة، الشيء الذي أدى إلى نسبية انخراط البعض في تسهيل تنفيذ كل الإجراءات ميدانيا، مما نتج عنه استنفاذ وقت مهم و طاقة كبيرة في التوعية و شرح أهمية التزام المنازل مثلا.

لذلك، من الدروس التي يجب أن نستفيدها من هذه الأزمة هي أن نستحضر في الأوقات العادية، احتمال حدوث أزمات مختلفة، صحية أو طبيعية، و الاستعداد لها بشكل جيد عبر نشر ثقافة التعاطي مع الأزمات و الطوارئ بالنسبة للأفراد و المؤسسات، و رفع جاهزية مجموعة من القطاعات التي تجد نفسها على خط التماس في حالة أي كارثة تأتي فجأة، و تمكينها من وسائل الضبط و التدخل.

مما لا شك فيه أن كل الفئات والمجالات تضررت، لكن حدة الضرر كانت أكثر شدة بين الفئات الهشة،والقطاع غير المهيكل، وهما من نقاط الضعف التي يتم التنبيه على حساسيتها منذ سنوات. إلى أي حد تمكنت هذه التجربة على قساوتها، في فرض أمر واقع بعيد عن التنظير، والدخول في الفعل الميداني المباشر بعد التوصيات الملكية لصالح الجهات الأكثر تضررا؟

أظن أن التقييم الموضوعي الكامل للتجربة سيكون ممكنا بعد انتهاء الأزمة. لكن بعض الخلاصات متاحة من خلال تحليل المعطيات في سياق فعل التتبع. وهنا من الواضح أن ما يتم حاليا هو عملية تعاطي مع الأمر الواقع، و التفاعل السريع مع ما يرجع من الميدان من أثر ما يتم من خطوات. و هذا جيد اعتبارا لكون ما يميز الأزمات هو طابعها الفجائي من حيث شكلها ومضمونها، و الأزمات عندما تكون مسترسلة في الزمن لفترة معينة، كحـالة الحـروب والأوبئـة، تفـرض على الدول وعلى المجتمعات، إيقاعا مختلفا عما يكون عليه الحال في الأوقات الاعتيادية، يتميز بكونه سريع التحول وغيـر مضبـوط الأثـر سلفا.

و أي تحرك يكون دقيقا و حساسا لأنه لا يستند بالضرورة إلى سيناريوهات للتدخل مُعدة مسبقا. كما أن غياب المعلومة، خاصة في الجانب الإجتماعي المرتبط بالفئات الهشة والعاملين في القطاع غير المهيكـل، يفـرض التعـاطي مع الـواقـع بعيـدا عـن التنظيـر.

في حالتنا كان الحل الوحيد، أو لنقل أقل الحلول سلبيات، هو التعاطي مع المتوفر من مؤشرات ومن معطيات عن الواقع الذي نتدخل فيه. وأظن أن السلطات العمومية ببلادنا، في غياب السجل الإجتماعي الموحد، اعتمدت على مسألة التوفر على بطاقة الراميد لأنها من أهم آليات تحديد الفئات الهشة، رغم الانتقادات و المؤاخذات التي وجهت لهذا النظام في السابق بأنه لا يستهدف كل المستحقين، مقابل استهدافه لبعض من لا تتوفر فيهم شروط الاستحقاق. و هذا موضوع يجب العودة للحسم فيه بعد الخروج من الأزمة الوبائية.

شخصيا استحسنت هذا الأمر لأنه يحل جزء من المشكل، و الأهم من ذلك يعطي إشارة على أن الدولة جادة فيما وعدت به من أخذ انتظارات الفئات الهشة في الإعتبار. وهذا كان توجيها رسميا من جلالة الملك، الشيء الذي ساعد في تعزيز الثقة و نشر الطمأنينة بين الفئات المعنية.

بالطبع، بطاقة الراميد لا تحل كل المشكل، لأننا نعترف بوجود أعداد أكبر من المواطنين في وضعية هشاشة اجتماعية و اقتصادية لا يتوفرون على تلك البطاقة. و هنا تم اللجوء إلى عملية تستند على عنصر الثقة و المسؤولية بين السلطات العمومية و الفئات المعنية، حيث تقـرر التصريح بطلب الدعم وتحمل مسؤولية المعطيات المُقدمة في إطار التصريح بالشرف، على أن تتم مراقبة صحتها في مرحلة موالية تحت طائلة فرض عقوبات ضد كل من قدم معلومات مغلوطة.

هذا الإجراء طرح سؤالا أساسيا حول قدرة جميع من يصنفون على أنهم فئات هشة مشتغلة في القطاع غير المهيكل، على التعامل بهذا النمط العصري المتقدم من التواصل، بالنظر إلى عدم توفر الوسائل اللوجيستيكية (حاسوب و هاتف ذكي) لدى الجميع، و بالنظر إلى نسبة الأمية في صفوفهم، وخاصة الأمية المعلوماتية. لكن، علينا أن نركز جيدا مع الأمر من زاوية أخرى على قدر كبير من الأهمية، وهـي أن ما يتم حاليا ينتقل بالمواطن المستهدف من حالة كان فيها في وضعية سلبية في تعاطيه مع مسألة الدعم، إلى حالة شريك إيجابي ومتفاعل. نحن نعرف كيف أن القاعدة كانت هي أن تأتي الإعانة، عندما تُبرمج في فترات معينة، إما عن طريق عون السلطة أو بواسطة جمعية مدنية، و في حالات أخرى يتنقل الراغب في الإستفادة إلى مقرات المصالح الإدارية المعنية ليطلب  "الإعانة".

ما جرى في هذه الأزمة هو تحول نوعي تتعاطى فيه الدولة مع المواطن المستهدف كشريك تتيح له التفاعل معها وتبين له كيفية التعبير عن حاجته، و تشهد له بثقتها في ما يدلي به من معلومات بناء على تصريحه بالشرف في هذه المرحلة، مع احتفاظها بحق مراقبة صحة المعطيات في مرحلة تالية. هذا التحول له رمزية بالغة في نظري، حيث أن الدولة في إطار تعاطيها مع الواقع، أدخلت المواطن القابع في وضعية هشاشة اجتماعية واقتصادية، بصيغة مباشرة و مفاجئة و بدون سابق تجربة، في دينامية فعل

يتسم بالحداثة. وهذا مكتسب كبير سيتيح إذا نحن قمنا بتثمينه أن ننتقل بسرعة أكبر إلى عصرنة شاملة لتدبير الدولة للخدمات الاجتماعية للفئات الهشة بشكل يجعلها تستند إلى معطيات موضوعية و يُبعدها عن أي استغلال سياسوي أو انحراف بيروقراطي أو فساد.

البعض قد يعتبر أن المشاكل اللوجيستيكية التي اشرت إليها سابقا هي نقطة ضعف كبيرة في هذا الجانب. لكنني أعتبر أن ما تم ينم عن ذكاء كبير و شجاعة في مواجهة المجهول عبر تفعيل الوسائل الممكنة وتحدي الواقع، و فتح الباب أمام تحول في مستوى الوعي بالذات و في مستوى تمثل المواطن الفقير لعلاقته مع السلطات العمومية على أساس المواطنة والحق الموضوعي و تحديث الفعل التواصلي. وهذا رائع في ما سيتيحه من أفاق لتطوير تدبير الجانب الاجتماعي في المستقبل.

و يبقى الآن المطلوب، في خضم تدبير الأزمة، و اعتبارا لما قد يتقرر من تمديد لفتـرة الحجر الصحي، أن نسند هذا الجهد الذي تم من خلال تسريع إيقاع توزيع الدعم دون أن نُخل بتدابير الوقاية و واجب تنظيم استفادة الناس بترتيب حتى لا تقع ازدحامات أمام الوكالات البنكية. كما مطلوب أيضا إبداع أشكال جديدة من الإعانات بحكم تجارب إحسانية سابقة، تتيح التعاطي مع واقع فئات لن تتمكن من المرور عبر القنوات التي تم فتحها لفائدة الفئات الفقيرة لأسباب موضوعية عديدة أشرت لبعضها. و من الضروري إزالة كل العوائق البروقراطية في التعاطي مع هذه الفئة الكبيرة و الهشة، من أجل إبقاء الثقة و تعزيز التواصل في هذه المرحلة الحساسة.

إلى أي حد يمكن لهذه الأزمة أن تساهم في بلورة نموذج خاص حول ما يجب أن تكون عليه مشاريع التنمية مستقبلا؟

أعتقد أن هذه الأزمة تحمل في طياتها نعما كثيرة، لعل أهمها في نظري هو ما نراه من تجديد ارتباط المواطنين بوطنهم بشكل يحمل ثقة كبيرة و افتخارا حقيقيا، وبداية تغيير قوي لتلك الصورة النمطية التي كان فيها كثير من جلد الذات و من نشر التسفيه و الانعزالية و الفردانية واللامبالاة، وبروز حالة من الانسلاخ الهوياتي عن واقعنا الوطني. كما أن الأزمة بينت بجلاء أوجه القصور التي كانت قائمة ولم نعالجها كما هو مطلوب، لأسباب عديدة أخطرها كان هو انغماس البعض في صراعات سياسوية فئوية ضيقة أضاعت علينا وقتا ثمينا من زمننا التنموي. و هذا موضوع آخر يجب العودة إليه بهدوء و موضوعية كي لا نعود للغرق في أوحال لا تفيد الوطن ولا المواطنين.

الأكيد أن ما نعيشه حاليا يتجاوز مسألة الشكل الذي يجب أن تكون عليه مشاريع التنمية مستقبلا، ليتيح لنا أمرا أشمل و أهم، ألا و هو إرساء معالم نموذج تنموي مختلف ومتكامل يـرتكز على عقد اجتماعي جديد يكون فيه الإنسان المغربي محور سياسات عمومية تحترمه و تعتبره شريكا و تسعى لتحقيق رفاهيته. نموذج تنموي تعطى فيه الأولوية للصحة العمومية و للتربية و التعليم و للإدماج الإجتماعي والإقتصادي للفئات الهشة و خاصة الشباب، وتعتبر فيه المعرفة و تقوية القدرات رافعة أساسية لبلوغ ذلك الهدف.

نموذج تنموي يثمن أنماط التضامن المجتمعي المستنذة إلى هوية الأمة المغربية، ويرسي قواعد تحديث تدبير القطاعات العمومية، و تطوير التواصل العمومي، وتشجيع المشاركة في تتبع و تدبير الشأن العام من طرف المواطنين، في إطار شراكة وطنية جديدة بين الدولة و المجتمع يكون هدفها الاستراتيجي تعزيز الدولة الوطنية و تقوية أدوارها الاجتماعية، ودعم الرأسمال الوطني، و تشجيع الإقبال على ما يقوي الإنتاج و الإقتصاد الوطني، و يعزز إنتاج الثروة و ييسر تقاسم عائداتها بفضل نمط جبائي عادل وتحفيزي يخدم رفاه المواطنين و يحقق المساواة في الاستفادة من الموارد و يضمن تثمينها، في إطار نمط حكامة يعزز سمو القانون و يربط المسؤولية بالمحاسبة بشكل لا رجعة فيه.

الاختلاف الجغرافي أفرز تباينا في في القدرة على مسايرة اجراءات تدبير المرحلة، بالنسبة لساكنة المناطق النائية والجبيلة والفئات الأكثر هشاشة،كالدراسة عن بعد، والاستفادة من الدعم في ظل غياب شبابيك ووكالات القرب،وأحيانا ضعف إيصال المعلومة بالنسبة للأمازيغية ... كيف يمكن تجاوز هكذا مشاكل مستقبلا لتمكين كل الفئات والجهات من ادماج حقيقي يحولها من نقاط ضعف إلى نقاط قوة؟

أكيد أن هذه الأزمة ستفرض علينا أن نجدد الاتفاق على الحد الأدنى من الخدمات الواجب توفرها في كل مناطق البلاد، و أن نحسم أمرنا في ما إذا كنا سنستمر في القبول بتوجيه اعتمادات عمومية لأوجه صرف فيها ترف فئوي، في نفس مجالات جغرافية توجد بها حاجة لبناء قسم دراسي أو مرفق صحي أو تربوي جديد قادر على أن يُحدث الفرق مجتمعيا. و علينا أن نحسم أمـرنـا، كذلك، في أشكال برمجـة الاستثمارات العمومية حتى لا نجد أنفسنا بمرافق صحية أو تربوية أو خدماتية ليس فيها عاملون، لأننا لم نوازي بين مجهود التكوين و التشغيل و التوزيع المجالي لطاقات مهنية نحتاجها في كل زاوية من الوطن حتى نوفر خدمات للشعب.

يمكن تجاوز كل نقط الضعف التي أشرت إليها من خلال تعزيز التأهيل المجالي على أسس صلبة ومعايير حكامة جيدة، و تقوية التضامن بين الجهات، وإعادة النظر في مؤشرات التدخل المعتمدة، وفي الوسائل و أشكال و أدوار المؤسسات المتدخلة. كما علينا أن نتحرر من النمطية ومن التعميم، و أن نتفق على أنه ما دام المجال مختلف و خصائصه متباينة، و ما دامت هنالك معطيات التباين في البُعد و القرب الجغرافي و في الخدمات المتاحة، فلا بد أن نغير شكل تعاطينا مع الرأسمال البشري الذي يؤدي خدمات عمومية كي نحفزه أكثر و نشجعه على التواجد في أماكن ظروف العيش فيها صعبة. هذا الرهان ممكن و يجب أن نرفع تحدي التطوير و العصرنة.

يتعين، أيضا، إرساء قاعدة منهجية جديدة لتدبير الاستثمار العمومي ترفع الحكامة إلى أعلى مستويات الشفافية و ترشيد إنفاق المال العام، و تأخذ في الحسبان الجدوى الاجتماعية بشكل أكبـر مما هو قائم حاليا. لا يمكن في المرحلة المقبلة أن نصل إلى ما نتمناه لوطننا إذا لم نحقق تكاملا بين مجهود الاستثمار العمومي في التجهيزات الكبرى، و بين تمكين المواطن البسيط الذي يعاني هشاشة اجتماعية و عزلة مجالية من أن يحس، بشكل من الأشكال، بأنه أخذ نصيبه من عناية دولته به. وهنا يلـزمنا مجهـود مضاعف من الإبداع كي نجد حلولا ناجعة، و نرتبها بشكل موضوعي بعيدا عن التمثلاث السابقة، وبعيدا أيضا عن النظرة المعيارية التي فرضها البعض بمنظور تقني صرف Techniciste ، أدى إلى اختيارات لم تكن بالضرورة محققة للتنمية في أبعادها الشاملة.

منذ بداية الأزمة عملت الأوامر الملكية على رسم مسار هذه المعركة ضد الوباء، بطريقة جعلت عددا من المغاربة يستفسرون عن طبيعة أدوار الأحزاب، هل تعتقد أن مثل هذه الانتقادات تؤسس لعلاقة جديدة مع السياسة لما بعد كورونا، أم مجرد انتقادات عابرة؟

أعتقد أن سؤال المغاربة عن ماهية أدوار الأحزاب وجدواها في تحقيق مصالح المواطنين، و نظرتهم إليها سابقة عن الأزمة. علينا ألا ننسى أن أحد أهم الأسئلة التي كنا في خضمها قبل كورونا، هو سؤال الثقة في الممارسة السياسية و في هيئات الوساطة السياسية. وكلنا كنا نتقاسم الارتياب و القلق من طغيان العزوف عن الشأن السياسي، لكن علينا أن نعترف بحقيقة أن لا أحـد استطاع أن يعيـد الثقـة في الفعـل الحزبي و الفاعل السياسي بسبب واقع فيه طغت فيه ممارسات يطبعها فساد في التدبير أو ضعف في القدرات.

وقد تابعنا كيف عززت سطوة الإعلام، أثر الظواهر السلبية في المجال الحزبي من خلال التركيز عليها، وكيف استطاع للأسف من يسمون "حرايفية السياسة"في بعض الهيئات السياسية، أن يعززوا الصورة السيئة للعمل الحزبي من خلال التضييق على الكفاءات وتهميش الشباب و النساء و محاربة النماذج المضيئة و اعتماد الكولسة والاصطفافات المبنية على المصالح و المنافع و ليس على الأفكار و البرامج، وعدم تشجيع بلوغ مواقع المسؤولية الحزبية من خلال الديمقراطية الداخلية الحقة، والإساءة إلى نماذج ممارسات سياسية حزبية جيدة يتميز بها بعض الأفراد الذين لا زالوا متمسكن بقيم النزاهة و الوطنية وخدمة الصالح العام، و يناضلون من أجل ذلك، أولا، في صفوف أحزابهم كي لا تموت السياسة.

شخصيا أربط هذا الأمر بموضوع تجـديد الثقـة، في أبعـادها المُجتمعية و ارتباطاتها بتسهيـل مسـار تأهيـل تدبيـر الشـأن العـام الوطني. وقد سبق لي أن كتبت أنه من الأهمية بمكان استرجاع الثقة بالنظر إلى الظرف التاريخي العالمي الذي يفرض علينا أن ننتبه للتحديات غير المسبوقة التي سنواجهها، و أن نعي جيدا أن بلادنا توجد في قلب تجاذبات الجغرافية السياسية والجيوستراتيجية للعالم، و لسنا على الهامش في صراع مصالح القوى الكبرى، وبالتالي علينا أن نستبق ما هـو قـادم بقـوة من نتائج انعطافة تاريخية قد يشهدها العالم على المستويات السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و المالية   والجيوستراتيجية و البيئية و الديموغرافية والقيمية، بشكل غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية. و لا مصلحة في الاعتقاد بإمكانية حـل المشاكل عـبـر "دفـن الـرأس في الـرمـل"، أو التردد و الخوف من

تحمل أعباء مواجهة التحديات بروح استباقية و استشرافية. فليس أفضل من حل مشاكل اليوم، بروح تعلي مصالح الوطن، بحكمة و هدوء و سكينة، عوض التأخر و المجازفة بأن نراها "خماجت"، و الاضطرار آنذاك للتصدي لها بارتباك و تخبط و في جو من الصخب.

لذلك، الشعب المغربي و هو يتسائل، ربما، عن أدوار الأحزاب في هذه المرحلة، و أشدد هنا على لفظ ربما، هو نفس الشعب المغربي الذي يحمد الله بإيمان و يقين على أن لهذه الدولة ملكا له من الحضور والالتزام بالقرب من هموم الناس، و له من السلطات الدستورية، وله من الرمزية الروحية القوية والكاريزما السياسية و الإنسانية، و من القدرة على التدبير الاستراتيجي الاستباقي، ما مكننا من تجنب كارثة صحية و إنسانية شديدة الوطأة لو أنه لا قدر الله تُرك أمر تدبير الأزمة لما كان من "فعل سياسي حزبي"سابق على الأزمة.

 ختاما، هل تعتقد أن هذه الفترة ستنجح في صقل مفهوم المسؤولية سواء على المستوى الفردي، أو الجماعي، أو المؤسساتي، بطريقة يمكن استثمارها مستقبلا في مغرب  يجب أن يساهم كل بطريقته للخروج من الأزمة؟

أنا أومن أننا سنخرج أقوياء و بوعي جديد و رغبة جامحة في تطوير الذات أكثر. لكن هذه الأزمة لن تكفي من تلقاء ذاتها و أثرها لتحقيق ذلك. هذه الملحمة أعطتنا توصيفا دقيقا لأعطابنا، و بينت لنا نقط قوتنا الحقيقية، و منحتنا الدليل على أننا نستطيع التقدم إذا توفرت الإرادة و توحدت الجهود. لكن، الرهان سيظل مطروحا وقابلا لكل الإحتمالات، حيث ستبقى نوازع الخير و ما سواه، أو لنقل المواطنة المسؤولة و اللامواطنة، تتفاعل في واقع تدبير الشأن العام و في ديناميكية التخطيط للمستقبل. وستظل

إرادة الحريصين على أن يكون المستقبل مشرقا لأبناء الوطن، تتدافع مع إرادة  بعض من يفتقدون"بُعدالنظر"(برفع الباء) و يفكرون في مصالح صغيرة ذاتية وآنية، و لا يعني لهم الوطن و التاريخ شيئا. كما ستظهر قيم  نبيلة في واقعنا، و قد تختفي وتتبدد أمام قسوة بعض السلوكات الأنانية والغرور.

المطلوب منا هو أن نُبقي شعلة الأمل متوهجة في وجداننا و في ذاتنا الجماعية لأن الأمل ضرورة مجتمعية استراتيجية. لكن، علينا أن نظل واقعيين وبراجماتيين و نتوقع مدا و جزرا بين تيار تقدير مقام المسؤولية الوطنية و بين ضده، بسبب ضعف الإيقاع أو غياب التحرك الفعلي نحو الأفضل، وعودة بعض الناس للتشكيك والتسفيه بشكل يستفز تفاؤلنا.

وبين كل هذا، من المهم أن يناضل كثير من الناس ضد إرادات البعض في كسر رغبة الإقدام و تحقيق أحلام وطنية مشروعة. والحل هو أن نشارك في الحياة العامة و نتتبع السياسات العمومية، و نتشبث بالتوابث الوطنية، حتى لا نترك المجال لمن قد يفضلون مصالحهم الفئوية على صوت الضمير الوطني الذي يهمس في أذاننا بأننا نستطيع.

وعلى كل فعاليات الأمة المغربية أن تسعى كي لا تخبو هذه الديناميكية الجديدة التي تعرفها بلادنا، و لا نفقد زهو مجتمعنا وأبناء شعبنا بهذه الشراكة الرائعة و التناغم الذي ظهر بين السلطات العمومية و بين المواطنين. و الأمل معقود على أن نجعل من خلاصات هذه الأزمة طاقة لمحرك الإقلاع الشامل الذي تحدث عنه جلالة الملك في خطاب العرش لسنة 2019، و أن نطلق ورش تنزيل نموذج تنموي جديد وأن نستمر في أوراش التأهيل المجتمعي، و إدماج الشباب، و تطوير أداء مؤسسات الدولة و آليات

تدخلها و منحها إمكانيات العصرنة، لتدبير تشاركي لوطن جميل يتفق الجميع على أنه تاج رؤوس المغاربة وعليهم واجب الحفاظ عليه.