ثقافة وفن

"الجايحة" و "بوكليب الأكحل" .. الباحث التوزاني يسلط الضوء على تاريخ الأوبئة في المغرب

سكينة بنزين الجمعة 17 أبريل 2020
Capture
Capture

AHDATH.INFO - حاورته سكينة بنزين

قبل جائحة كورونا، عاش المغرب العديد من الجوائح، ولعل هذا ما يجعل كلمة "الجايحة" في اللسان الدارج حاضرة في الخطاب اليومي، وإن كانت الأجيال المتأخرة لا تعي حمولتها ودلالاتها جيدا. وقد تمكن المغاربة من الخروج من مراحل قاسية في ظروف مرتبكة قد يشكل استحضارها اليوم فرصة لأخذ العبر، وتبين بعض نقاط القوة  لعدد من الاجراءات التي كانت يومها احترازية، لتتحول إلى ممارسات يومية لا يستحضر المغاربة أصل نشأتها، في هذا الجزء الأول من الحوار، نسلط الضوء على محطات من تاريخ المغرب الصعبة، رفقة الأكاديمي والباحث والكاتب خالد التوزاني.

يتعاطى الكثير من المغاربة مع فيروس كورونا، على أنه جائحة غير مسبوقة، خاصة الجيل الذي لم يدر ولو بالسماع، أن المغرب مر بصعاب أكبر، كمشتغل على التاريخ المغربي ضمن عدد من الكتابات، هل لك أن تحدثنا عن بعض الأمثلة التاريخية المشابهة التي عرفها المغرب وبعض من تداعياتها؟

لم تكن جائحة كورونا أول فيروس يضرب المغاربة، بل عرف المغرب عبر تاريخه الطويل أحداثاً جسيمة ومرّ بفترات صعبة حتى ضاقت الدنيا على المغاربة، فقد اجتمع الصراع على السلطة مع موجات الجفاف والغلاء، وطالت سنوات القحط ونقص الغذاء.

وإلى عهد قريب يذكر المغاربة فترة الأربعينات، في أيام الحرب العالمية الثانية، أزمة نقص الغذاء، وما خلّفه من مجاعة عظيمة، أكل فيها المغاربة الجيف والدواب والموتى وفَرّ منهم عدد كبير إلى الجبال بحثاً عن أوراق الأشجار يقتاتون منها وينأون عن الوباء والجوع وفتن النهب والسلب، كما اجتاح الطاعون الأسود بعض المناطق، وكان يسميه المغاربة بالدارجة "بوكليب الأكحل"، وقد كانت جثت الموتى بالطاعون تبقى ملقاة في الشوارع والأزقة لا يقترب منها أحد مخافة الإصابة بالعدوى.

وللوقوف على نماذج من الأمثلة التاريخية المشابهة لبعض ما يقع اليوم في المغرب، من هلع وخوف جراء انتشار جائحة كورونا المستجد، نستدعي السنوات الأخيرة من أيام الدولة السّعدية، خلال القرن الحادي عشر الهجري، عندما ضعفت بسبب ما شهده المغرب من صراع مستميت على السلطة،  زاد من وطأة الأزمة، انتشار البلاء وتوالي سنوات الجفاف.. وقد تحدّثت الكثير من المصادر التاريخية عن هذه الفترة الحرجة ، منها كتاب مؤرخ مجهول عن دولة الطوائف بعد ظلم الخلائف، وكتاب: مناهل الصَّفا في أخبار الملوك الشُّرَفا، لأبي فارس عبد العزيز الفشتالي، وكتاب: الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، لأحمد بن خالد الناصري السلاوى، وكتاب: نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي، لمحمد الصغير اليفرني. والذي له كتاب آخر بعنوان: روضة التعريف بمفاخر مولانا إسماعيل بن الشريف. وكتاب: التقاط الدرر ومستفاد المواعظ والعبر في أخبار وأعيان المائة الحادية والثانية عشر، للقادري محمد بن الطيب. وله كتاب آخر بعنوان: نشر المثاني لأهل القرن الحادي عشر والثاني. وكتاب إيليغ قديما وحديثا للعلامة محمد المختار السوسي. فضلاً عن كتب الرحلات، ومن أشهرها رحلة ماء الموائد لأبي سالم العياشي والذي كان أكبر علماء عصره، وقد مات بالطاعون عام 1090 هجرية.

ولقد ركّزت بعض المصادر التاريخية على وصف الجوع والخوف الذي أصاب المغاربة في تلك السنوات العِجاف، ومنها كتاب يحمل عنوان: "زوبعة المشتاق لبعض ما وقع في المغرب عام اثنين وسبعين من الجوع والشقاق"، لمؤلفه العياشي محمد بن عبد الجبار، ومما ورد فيه قوله في أبيات شعرية مؤثّرة:

يا من عن الغَرْبِ عام الجُوع قد غربا لا تنكرن على من جوعه غَلَبا

إن حَــدَّثُوكَ أحـاديث إذا سُمِعـَت يَظَّلُ سَـامِعها يقول واعَجَـبا

اشدد بعــام يكاد الزَّرْعُ فيه يكـون كالنّدَى فَيُبَاعُ وزنـــه ذَهَبا

ما أعظم الأمـر إِذْ كانت تَعُودُ بـه التَّمْرُ تِبْرًا وعـاد حَشفه رُطَبـَا

وقد عرف المغرب محطات قاسية، كاجتياح وباء الطاعون  من سنة 1007هـ إلى 1016هـ، وبين عامي1072هـ و1089هـ، وساعد على انتشاره بفاس، فيضان عظيم خرّب المنازل والقناطر والأسواق، حتى وصل الماء إلى باب البرادعيين، وهدد دورا عديدة بالانهيار والدّمار.

كما عرف المغرب سنوات الجفاف والقحط، في الأعوام: 1022هـ و1060هـ و1044هـ و1063هـ و1072هـ، و1073هـ و1090هـ، والتي رافقتها موجات الغلاء، حيث يذكر صاحب كتاب الاستقصا، أسباباً أخرى للغلاء في هذا القرن، ومنها: ثورات القبائل التي قطعت سُبل المسافرين وقوافل التجارة، فقلَّتْ المواد الغذائية في المدن، وتسببت الحروب في فساد الزراعة، وحصار الأجانب ومراقبتهم للموانئ التجارية المغربية، فضلاً عن طول فترة الجفاف، وانقطاع المطر، الشيء الذي أهلك الحرث والنسل وأضاع البلاد وأفسد أرزاق العباد.

وقد وصف الرحالة المتصوف أبو سالم العياشي في رحلته ماء الموائد، وهو الذي مات بوباء الطاعون، ما حل بالبلاد من فتن وجوع، قائلا: "في سنة تسع وستين دَبَّت في مغربنا عقارب الفتن، وهاجت بين الخاصة والعامة مضمرات الإحن، فانقطعت السبل أو كادت، وماجت الأرض بأهلها ومادت، (...) وأضرم الجوع في سائر الأرجاء ناره، فتولد منه من الفتك والحرابة ما أعلى تفريق الكلمة مناره، وتطاير في كل أفق شَراره، وأهان خيار كل قطر شُراره، واتخذت البدعة شعارا، والزندقة دثارا، وفر الساكن من بلده، والوالد من ولده". ولا يخفى ما في هذا الوصف من ألم ومعاناة، وقد كتبها شاهدٌ على تلك الأحداث المؤلمة.

أما صاحب كتاب المطرب بمشاهير أولياء المغرب، فشبَّه كثرة الفتن في تلك الحقبة من تاريخ المغرب، بنزول المطر، حيث قال: "في وقت كانت الفتن فيه كنزول المطر من السماء، حروب طاحنة متوالية بين السعديين والعلويين وبين المسلمين والإسبانيين والإنجليزيين، وثوار متلصصون هدفهم الإفساد في الأرض ونهب الأموال، يضاف إلى ذلك ما كانوا يصابون به من نكبات الحياة كضيق في المعيشة، وارتفاع في الأسعار، وجدب وقحط وزلازل وهزات".

فقد عرفت مدينة فاس زلزالين عنيفين؛ الأول في رجب سنة 1030هـ والثاني في رمضان سنة 1075هـ فاغتم الناس وعمّهم الرّعب والفزع، واعتقدوا في الحالتين أنها الساعة لا محالة.

هل كان لهذه العوامل تأثير على الجانب الديمغرافي والسياسي؟

لا شك أنَّ هذه الأزمات، قد أدت إلى تغييرات جدرية وبنيوية كبيرة على المستوى الديمغرافي والسياسي والاجتماعي، فبعض الأحياء السكنية أصبحت خالية من السكان، لأنهم ماتوا جميعاً بسبب الوباء، وأحياء أخرى فرّ سكانها جميعاً إلى القرى النائية والجبال البعيدة ليتحصّنوا بعيداً عن الثوار والمتمردين واللصوص، وأحياء أخرى تم تخريبها وسلب ما فيها من متاع وزاد، وإخراج أهلها وقتلهم وتشريدهم، وهذه الأحداث قد جعلت التركيبة الديمغرافية لمدن المغرب الكبرى تتغيّر وتتأثر، حيث انخفض عدد السكان، وكثر أصحاب أهل العاهات والمعاقين، واليتامى والمشردين، مما نتج عن ذلك ظواهر اجتماعية لم تكن مألوفة في المجتمع المغربي، ولم يعهدها من قبل، كالتسوّل وظهور مهن جديدة مرتبطة بالفقراء، كادعاء المرض، وادعاء القدرة على العلاج وشفاء المعطوبين، وانتشار الخرافات والأساطير، وغيرها من الظواهر التي صعب بعد ذلك التخلص منها، ولعل بعضها بقي مؤثراً في العقليات إلى يومنا هذا.

ومن الناحية السياسية كانت هذه الأحداث الأليمة، تهدّد وحدة المغرب، وتستنزف موارده وطاقاته، فتجعله عرضة للمطامع الأجنبية، وتُحدِثُ فراغاً في السلطة، يستغله بعض الثوار لتفتيت المغرب ومحاولة الاستيلاء على السلطة والحُكم بالقوة والعنف، وإكراه الناس على قبول الأمر الواقع، ولذلك عندما ضعف أمر الدولة السعدية، وأصبح المغرب مهدّداً في وحدته، قام الأشراف العلويين، بمبادرات لتوحيد المغاربة، ودفع الأطماع الأجنبية، وحماية ثوابت المغرب الدينية والوطنية، باسترجاع الأمن وحفظ الكليات الخمس، ولم يكن ذلك سهلا فقد اقتضى من السلطان المولي الرشيد قضاء أزيد من سبع سنوات في محاربة المتمردين ومثيري الفتن في البلاد، حتى نجح في تخليص المغرب من الأزمة، ليبدأ عهد جديد، استمر إلى يومنا هذا مع السلطان جلالة الملك محمد السادس أدام الله له العز والتمكين.

شكل قرار تعليق الصلاة في المساجد، كخطوة احترازية نقطة جدل لمن اعتبرها أمرا غير مسبوق، وهو ما فتح الباب أمام بعض التيارات لإثارة بعض الشبهات، إلى أي حد يمكن للتاريخ أن يساهم في بناء وعي مرن، من خلال استحضار أمثلة مشابهة سابقة، تصالح المتلقي مع بعض القرارات أو الاجتهادات؟ 

لقد شكّل قرار تعليق الصلاة في المساجد بوصفه خطوة احترازية وقائية، فرضتها ظروف محاصرة انتشار جائحة كرونا، صدمة كبيرة لشريحة عريضة من المغاربة، الذين قلوبهم معلقة بالمساجد،حتى إن بعضهم سُمُّوا بالوتد وبالسارية لكثرة وقوفهم في الصلاة، وأفضل منازلهم، تلك القريبة من المسجد، وأسمى أمانيهم في الحياة أن يتوفاهم الله وهم في المسجد، ويسارعون للتبرع والتطوع كلما كان الأمر متعلّقاً ببناء أو ترميم أو إصلاح أو تجهيز مسجد من المساجد، ولا يعرف هذه الصلة القوية التي تجمع المغاربة بالمساجد إلا من كان على اطلاع بتاريخ الإسلام، ودور المغاربة في نشر الإسلام عبر العالم، ونصرة القضايا الكبرى للأمة الإسلامية، ولا تكاد رقعة جغرافية في المغرب تخلو من مسجد مهما قلّ عدد ساكنيها.

ولذلك كان انضباط المغاربة لتعليمات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بإغلاق مساجد المملكة، سريعاً وفي الحال، دون أي تردّد أو تأخير، ودلّ ذلك على أنَّ المغاربة يمتلكون حسّاً دينياً ملتزما بقيم الوسطية والاعتدال ومنسجماً مع ثوابت الأمة المغربية وخاصة ما يصدر عن المجلس العلمي الأعلى الذي يرأسه أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده، والتزام المغاربة بهذا القرار الصّعب، يُمثّلُ دليلا على الوعي الكبير الذي يتحلى به المغاربة، ودليل أيضاً على ثقة المواطنين في المجالس العلمية وفي العلماء المغاربة، وحرصهم على حماية الكليات الخمس، وعلى رأسها حفظ النفس، فحفظ الأبدان مقدّم على حفظ الأديان، وغيرها من القواعد الأصولية التي يحفظها عموم المغاربة، وهنا نجد المغرب يحصد ثمار تدبيره المحكم للشأن الديني، كدروس الوعظ والإرشاد بالمجالس العلمية و محو الأمية في المساجد، و الدروس الحسنية و قناة محمد السادس للقرآن الكريم،  والكراسي العلمية، وخطب الجمعة ... مع التركيز على ما يوحّد وحدتهم العقدية والمذهبية والسلوكية، بعيداً عن التطرف والمذاهب الضالة والمنحرفة عن الاتجاه السّني، مع الحرص على تلقي العلم من العلماء المغاربة، إذ لكل بيئة خصوصياتها، والمؤمن ابن وقته، فلا يفرّط في دينه وأصوله، ويسعى في الآن نفسه للانفتاح على العصر بالانخراط في النقاش العالمي حول المشترك الإنساني، وقضايا الأخلاق والقيم، ومعضلات البيئة والمناخ والتنمية، ولذلك لم يكن قرار إغلاق المساجد في زمن جائحة كورونا، ليُحدِثَ أي إشكال عند المغاربة، فقد تقبّلوا الأمر بوعي وانضباط وتسليم بقضاء الله وقدره، خاصة وأنَّ الأذان لم ينقطع من المساجد، وظلّ يرتفع مع دخول وقت كل صلاة، فلم يتغير إلا الخروج إلى المسجد، أما الصلاة فتُقام في المنازل مع الأولاد والأهل، وهي فرصة استغلها المغاربة لتقوية الروابط الأسرية والخلوة والاعتكاف والدعاء.

بعض التيارات الدينية المغالية، اتخذت قرار إغلاق المساجد ذريعة، لإثارة بعض الشبهات، لكن لم يتبعها المغاربة، وظلت أصواتها نشازاً، وهذا يعني أن المواطنين كانوا على قناعة بالقرار، خاصة وأنه صادر من المجلس العلمي الأعلى للمملكة المغربية، و لم يكن قراراً إدارياً أو أمنياً، حيث إنَّ جملةً من القواعد الفقهية المنسجمة مع روح الشريعة واجتهاد العلماء، كان وراء هذا القرار، الذي لم يكن استثناء في المغرب، وإنما ساد عدداً من بلدان المسلمين، فالحقُّ واضحٌ، ومَنْ له أدنى حظّ من الفهم يدرك بالفطرة أنَّ الورع هو ترك ما يريب إلا ما لا يريب، وأنّ المؤمن يحتاط لنفسه ولغيره، وأنَّ حفظ النفس هو أول ما ينبغي حمايته، بل إن الأديان نفسها قد جاءت لحماية الأبدان وخدمة الأرواح، والضرورات مقدّمة على الحاجات.

ولعل ما يزيد من ثقة المواطنين في قرارات السلطة كون جميع القرارات الاحترازية والوقائية والاستباقية التي تم اتخاذها، لمواجهة جائحة كورونا، كانت قرارات معلّلة ومبرّرة، وحاولت أن تكون قريبة من أذهان المواطنين وقلوبهم، مما خدم التواصل المثمر بين الدولة والمواطن.

 

في الجزء الثاني من الحوار، سنسلط الضوء على حضور الاجراءات الاحترازية في الثقافة المغربية من خلال المعمار واللباس وتخزين الأطعمة.