فكر و دين

التوزاني يسلط الضوء على تعاطي الزوايا الصوفية مع أوقات الشدة في المغرب

أحداث أنفو الاحد 19 أبريل 2020
Capture
Capture

AHDATH.INFO - بقلم الباحث خالد التوزاني

في الأزمة الصعبة التي عرفها المغرب عبر تاريخه، كانت الزوايا والطرق الصوفية الحصن المنيع الذي يتدخّل في أوقات الشدة لتقديم الدعم والمساندة، والتخفيف من نوائب الدهر؛ بإطعام الطعام وإيواء المساكين وتنظيم مواسم الاستسقاء والتضرع والتوسل إلى الله بكشف الكرب والبلاء، فقد كانت الزوايا مؤسسات قائمة بذاتها، لها أراضي شاسعة وأوقاف ومزارع ومخازن الحبوب والزيت وغيرها من المواد الغذائية الأساسية، التي تُطعم بها طلاب العلم الذين يدرسون في الزاوية، ويقيمون فيها، إلى جانب كثرة الوافدين والمريدين، وكان شيوخ الزوايا لا يدّخرون شيئا لأنفسهم، بل يأكلون مما يأكل الناس منه، ويصيبهم ما يصيب عامة الناس.

فهذا الرحالة أبو سالم العياشي وهو شيخ الزاوية العياشية لم يستجب لطلب السلطان في تولي منصب القضاء، ولم يطب له المقام بمدينة فاس التي ترد إليها الخيرات من كل الجهات وتعرف ازدهاراً في كل شيء، تخلى هذا العالمُ الصوفي على المكانة الرفيعة التي بإمكانه تحصيلها، وفضّل البقاء في زاويته بمنطقة نائية في نواحي إقليم الراشيدية، بقرب جبل العياشي، حيث توجد زاويته وتفرّغ للتدريس وتعليم الطلاب وتأليف الكتب، حتى أصابه الطاعون فتوفي بسببه عام 1090هـ، ولذلك كانت الثقة كبيرة بين المغاربة وأهل التصوف من العلماء والأولياء، نظراً لما شاهدوه من ورع وتقوى في سيرتهم وسلوكهم، خاصةً وأن الزوايا إلى جانب الأدوار الدينية التي تقوم بها، فهي تؤدي وظائف اجتماعية كالتكفل بالأيتام وعلاج المرضى والمسنين، وحماية المشردين والمقهورين والمستجيرين بالزاوية، كما عملت الطرق الصوفية أيضاً على مقاومة الأطماع الأجنبية، ومحاربة المحتل، بإنشاء الرباطات لحماية الثغور المغربية، والتحريض على المقاومة، وحماية طريق الحج من قطاع الطرق، فضلا عن التعليم والتربية والتزكية، وتنشيط الحياة الفكرية والعلمية، ولذلك كانت للزوايا أهمية كبرى في التصدّي للأوبئة والمجاعات والكوارث الطبيعية، ولم تكن أدوارها، منحصرة في تقديم الشرح والتوعية، بل قدَّمت بديلا متكاملا قوامه المحبة والإخلاص ونفّدت برنامجاً عملياً للإسهام في بناء مجتمع مغربي حضاري يحافظ على ثوابته ويحمي مقدساته.

وقد استمر عطاء الزوايا إلى اليوم، ولم ينضب معين الشيوخ والصلحاء، وخاصة في المغرب الذي يعدّ بلداً للأولياء، ويحظى فيه أهل الله بحسن الثقة والتقدير من عموم المغاربة، ولذلك فإن أي دور تقوم به الزوايا اليوم، بالتأكيد سيجد له صدى طيباً في عموم المريدين والمحبين، خاصة وأن الزوايا الصوفية في المغرب تملك رصيداً روحياً وأخلاقيا وتربوياً زاخراً بالكثير من القيم والمبادئ، وتستطيع أن تؤثر في النفوس والأرواح بما تتوفر عليه من رقائق وأذواق وأشواق، تأسر القلوب وتسحر العقول، ببلاغة البيان، وصدق اللسان، وصفاء الجِنان، وإن إسهامها في التوعية وحث المغاربة على التزام الحجر الصحي، له مفعول قوي ومباشر.

ولا يخفى أن التجربة الصوفية في عموما تميل إلى ستر الأشواق، وبذل الجهد في قراءة الأوراد، دون انقطاع أو فتور، ولقد أعلنت بعض الزوايا في المغرب منذ تسجيل الحالات الأولى للمصابين بوباء كوفيد 19، عن جلسات قراءة اللطيف، والاستغفار، والتضرع إلى الله، ليرفع الوباء، ويحفظ المغاربة ملكاً وشعباً، وجدّدت تلك الزوايا دعوتها كل مريديها ومحبيها والمتعاطفين معها، إلى التزام التعليمات التي تصدرها الجهات الصحية المختصة، وبعض الزوايا أصدرت بلاغاً بأكثر من لغة يتضمن توجيهات روحية وصحية، للتعامل مع الجائحة.

ومنها الطريقة العلاوية في بيان أصدرته باللغتين العربية والفرنسية يوم 3 أبريل 2020، حمل عنوان: "كوفيد 19 دعوة إلى تفكير جديد"، أكّدت فيه بأن "إنسانيتنا واحدة"، يقول البيان: "جاءت هذه الأزمة لتذكّرنا أن الإنسانية جسد أصيب في أعز ما يملك: صحته، العالم في حالة غرق، لا يخفى على أحد أن هذا الفيروس يستهدف بشكل أساسي الرئتين، إنه يصيب تنفس الإنسانية"، كما ربط البيان أزمة الجائحة بما أصاب كوكب الأرض من حرائق تسببت في تهديد رئته، قائلة: "رئاتنا ورئة كوكبنا يتهدّدها خطر ما يمكن أن نسمّيه: التهاب رئوي كوكبي".

وأضاف البيان: "إن آلام أجسادنا وأجساد أقاربنا، وآلام جسد المجتمع وجسد الكوكب، هي ذات الآلام الواحدة، هذه الأزمة أبانت على هشاشتنا، جاءت لتوقظنا"، ويضيف البيان أيضاً: "هذه الأزمة هي سانحة لإعادة التفكير فيما سيكون عليه عالم الغد، والعمل مع بعض لترقية واحدية العائلة الإنسانية بالانتقال من "ثقافة أنا"، إلى ثقافة نحن"".

ويختم البيان بتجديد التأكيد عل قيمة التضامن: "كل واحد ينبغي أن يتعلم التقاسم، دون أن ننسى الأكثر عوزا"، ويضيف "لنجعل لهذا النموذج مكاناً في العائلة الإنسانية لكي يدعونا إيقاظ الضمير هذا، لتوقيف هذا السباق الجنوني لنمط حياتنا الحالي، لنخرج من تاريخ ولنلج تاريخاً جديداً. لنوحّد جهودنا من أجل أن تصير القيم الكونية للتقاسم، والتضامن، والمساواة والعدالة حقيقة معاشة لصالح الإنسانية قاطبة، دون تمييز في الثقافة، أو الدين، أو المركز الاجتماعي".

ولا يخفى ما في كلام شيوخ الطرق الصوفية من عمق، ومحاولة لإقناع المتلقي، عبر الانطلاق من الأفكار المنطقية العامة، التي تقبلها الفطرة، ويستوعبها العقل، ويميل إليها القلب، وهذا التكامل في التعبير الصوفي، غالبا ما ينجح في استقطاب مريديه، أو استمالة محبيه، فيؤلّف القلوب ويقرّبها، نظراً لانطلاقه من رغبة قوية في احتواء المشكل ومحاصرة المعضلة. علماً أن المعرفة الصوفية أحيانأً تكون موغلة في القِدم، ونتيجة خبرات وتجارب إنسانية، مجربّة ومتواترة، فما ذكره اليوم بيان الطريقة العلاوية، في أنَّ الكون قد تضّررت رئته، وأصاب جهازه التنفسي الاعتلال، نجده في أقوال بعض الصوفية القدماء، ومنهم: بن عجيبة الحسني، الذي كتب كتاباً في التصدي لوباء الطاعون، منذ أزيد من قرنين وذكر فيه أن "الوباء عند الأطباء هو فساد الهواء".

والملاحظة التي لابد من الإشارة إليها في هذا السياق، سياق تدخل الزوايا الصوفية في نشر الوعي عند المواطن، أن جلّ الزوايا أكّدت على ضرورة اتباع التوصيات الصحية التي تصدرها الجهات الوصية، والمخولة لها بتدبير الجائحة، فضلا عن التذكير بالقواعد العامة في النظافة والوقاية، مع الدعاء في الأخير والتضرع إلى الله بالتعجيل بالفرج القريب والتخفيف عن الإنسانية، وشفاء المصابين، والرحمة بالمتوفين. ولا شك أن هذه المعاني الصوفية، تنسجم مع رسالة التصوف عموماً في الحث على الرحمة واللين ونشر المحبة بين الخلق، وفسح المجال للقلب ليسامح ويعفو يصفح، فيطمئن صاحبه وينشرح صدره، وفي ذلك شفاء من كل الأسقام التي مصدرها التوتر والضيق والحسد والشح، وغير ذلك من أمراض القلوب التي اختص التصوف في علاجها. وما أحوجنا حقيقةً إلى مثل هذه الرسائل وأخواتها في أزمنة الجائحة، حتى تتكاثف جهود مكونات المجتمع المغربي، لتمر العاصفة، ويستعيد المغرب والعالمُ عافيته وأمنه الصحي والنفسي والمادي