ثقافة وفن

قبضة من تراب لإبراهيم الصلحي.. عن حياة صانع الصورة وأحواله

طه بلحاج الأربعاء 17 يونيو 2020
إبراهيم الصلحي
إبراهيم الصلحي

AHDATH.INFO- بقلم: الوليد محمد الأمين

يمثل ابراهيم الصلحي رقماً لا يمكن تجاوزه في مسيرة الفن التشكيلي في السودان، بل والفن والإبداع في السودان علي وجه العموم. وربما كان من الإنصاف القول إنه رقم لا يمكن تجاوزه في مسيرة فن التشكيل  الإفريقي كذلك، هذا عدا عن موضعه بين فناني التشكيل في العالم أجمع. ولئن كان الصلحي غير معروف كما ينبغي في بلاده، فذلك على وجه العموم أيضاً حال أنبياء السودان، إذ لا كرامة لنبي في قومه كما درجت المقولة.

في ما يزيد قليلاً ببضع صفحات على الأربعمائة، يستعرض الصلحي في كتابه «قبضة من تراب» مسيرة حياته الحافلة بالتجارب والتأمل في أحوال الناس وبلاد السودان والدنيا. لن يتطلب الأمر كثير عناء من القاريء/ القارئة لاكتشاف الروح الصوفية لكاتب الكتاب.

في بدايات خريف 2019، في مايو، والبلاد كانت تتهيأ لحدث فريد يتخلق في أحشائها في ديسمبر القادم، حضر الصلحي إلى السودان، كرمته ثلة من التشكيليين السودانيين بإقامة معرض استعادي على شرفه في متحف السودان القومي على ضفاف النيل، «تحية إلى الصلحي» كان اسم المعرض. يومها كان الرجل العظيم متعباً من وطأة المرض وتراكم السنين، تحدث قليلاً : «السودان بخير، السودان بخير»… ثم لما جلس شرحبيل أحمد (1) عند قدميه طالباً منه اختيار أغنية ليغنيها علي شرفه، (كما الأيام الخوالي قال شرحبيل)، قال الصلحي ما تشاء يا شرحبيل. ذكرت هذه الحكاية لأصل إلى أن الصلحي يومها حضر رفقة مجموعة من رجال الصوفية، لا أذكر أي من الطرق كانوا، ولا أظن ذلك مهماً، المهم، يومها قال الصلحي إنه تصوف معهم وأنه يرى أن حقيقة العالم هي في التصوف أو شيئاً من مثل ذلك.

في الكتاب الصادر عن منتدي دال الثقافي في العام 2012، لن تخطيء عيناك صور التصوف وسمو الروح المبثوثة عبر صفحات الكتاب. لن يصعب عليك بعدها الوصول إلي حقيقة أنك أمام رجل عظيم وحكيم من أهل السودان. يقول الصلحي مثلاً: «غادرت السودان ثم عدت. ثم فجأة بدأت أنظر من حولي... وفجأة أدركت كل ذلك الجمال على حين غرة.. كان عليّ أن أسافر للخارج والعودة مجدداً بنظرة مغايرة للأشياء». ذلك مثلما قيل لأبي يزيد (2) خارجاً من بسطام في طلب الحق: ما تطلب يا أبا يزيد؟ قال الله، فقال له: إنّ الذي تطلبه تركته ببسطام، فتنبه أبو يزيد كيف يطلبه وهو تعالى يقول : وهو معكم أينما كنتم ! وفي ذلك أيضاً أو مثله ربما، يقول الصلحي : «لقد تأثرت أعمالي التشكيلية باستمرار بتعليمي ونشأتي الدينية... إنه من البديهيات التي لا أفكر فيها لأنها موجودة هكذا». تلك الروح الصوفية العالمة بحقائق الأشياء هي ما هوّنت عليه شهور السجن الستة وما كان عليه حاله في السجن قبلها من تيه وجدل. ولك أن تتأمل هنا في حال النابهين من أهل السودان يرميهم العساكر ومن والاهم في سجون القهر والظلم ولازالوا يفعلون : يروي الصلحي أنه قابل بالسجن الأستاذ أحمد خير المحامي (3) وآخرون يذكر الصلحي بعضهم بالاسم.

الكتاب المطبوع علي ورق صقيل وفخيم يليق بكاتبه مقسم إلى عدد من الفصول أو الأبواب : كلمة شكر وعرفان، إبراهيم الصلحي وصناعة الحداثة العابرة للقوميات (وهذه من كتابة الأستاذ صلاح حسن والترجمة للأستاذ مصطفي آدم )، مقدمة المؤلف، في خدمة الدولة، في ضيافة الدولة (سجن كوبر العتيد)، أم درمان.. العباسية، الخلوة.. المدرسة الأهلية.. وادي سيدنا، مدرسة الفنون بكلية غردون التذكارية، أمريكا – أمريكا اللاتينية – باريس – لندن، الإسليد (أيام الدراسة ببريطانيا)، مدرسة الخرطوم، زيارة المكسيك، أمريكا مرة أخري، دراما الألوان الداكنة، بيت الجاك، بدء الشتات وعرس الزين، مفارقات عجيبة، قطر مرة أخرى، أكسفورد.. إيثاكا.

يكشف الكتاب جانباً مهماً من طبيعة الفنان : حذق الأشياء والاخلاص للعمل. يتضح ذلك عند متابعة ما قام به الصلحي لإنشاء مصلحة الثقافة واهتمامه بالتفاصيل الدقيقة في ذلك، وفي أفكاره المبدعة والخلّاقة المتصلة بصميم عمله، من ذلك مثلاً الطريقة التي اتبعها في تعيين الشباب والشابات في المصلحة واهتمامه بإجراء المعاينة لكل منهم بنفسه، ثم كذلك الدورات التدريبية التي ألحقهم بها والمهارات التي حرص على إكسابها لهم، من ذلك مثلاً الطباعة على الآلة الكاتبة، التصوير الفوتوغرافي، التصوير السينمائي وهندسة التسجيل الصوتي وذلك على سبيل المثال. لقد كان الصلحي مثقفاً حقيقياً مدركاً لحوجة بلاده في المجال الثقافي وعمل على معالجة ذلك بحرفية عالية ومهارة لا تتأتى إلا لمن كان مثقفاً عضوياً كما يقال بلغة هذه الأيام. شاءت الأقدار أن يصبح الصلحي وكيلاً للوزارة بعد اغتراب وكيلها السابق إلى دولة قطر، ومن مشيئة الأقدار وقتها كذلك أن مهمة قسم الحسابات بالوزارة كانت لمحمد المهدي المجذوب (4)، شاعر السودان العظيم غير المقدّر كما ينبغي له هو الآخر، والذي يصفه الصلحي بالصديق الشاعر الملهم. وعلى ذكر المجذوب فقد بدا لي أن بعض أجزاء الكتاب كتبت بلغة فيها من الشاعرية ما فيها، على الأخص ذلك الجزء الأقرب للروحانية والتصوف في باب حديثه عن فترة السجن واكتشافه لحقيقة الأشياء بعد لقائه بمن أشار إليه الصلحي بأحد الأخيار من رفاق السجن، وكذلك في باب أمدرمان العباسية، بل إنني أجد تلك اللغة الأقرب إلى لغة الشعرهي أقرب ما تكون إلى لغة المجذوب نفسه في قصيدته الطويلة شحاذ في الخرطوم. ليست اللغة وحدها، فتعبير مثل قوله : " وهرعت إلى دار أبي وأنا أعتذر لطين البيت عن طوب الكذب " يصعب تصنيفه بغير روح الشعر.

يلفت النظر في الكتاب أيضاً تلك الذاكرة الوقّادة للمؤلف، ولئن ذكر في موضع منه كتابته للمذكرات فإن بعض تفاصيل الطفولة والصبا لا يمكن ردها إلا لذاكرة متحفزة، من ذلك يذكر الصلحي بكثير تفاصيل أنواع الأطعمة وقتها، أنواع الأقمشة، أنواع المزروعات في البيوت وخارجها، تفاصيل الخلوة ثم المدرسة، أسراب الطيور، سوق النسوان وتفاصيله، عهد الطرماج في أمدرمان وحكايات ركابه، يذكر كذلك بعض ألعاب الصبية في ذلك الزمان وبعض أهازيجها، وغير ذلك من التفاصيل الدقيقة والحميمة. كذلك يحرص الصلحي على وصف تفاصيل لوحات الفنانين الذين التقاهم في سفراته وخلال عمله، وصفاً أكاديمياً بعض الأحيان ولكنه مفهوم للقاريء غير المتخصص.

يذكر الصلحي في حديثه عن مدرسة وادي سيدنا زمالته لمنصور خالد والطيب صالح، وهي الزمالة التي تطورت إلى معرفة وصداقة استمرت إلى بعد تخرجهم من المدرسة، عن منصور خالد يقول الصلحي إنه كان نسيج وحده، لا يمت بأي صلة إلى مجتمع المدرسة، بل كانت له علاقات كونها خارج إطار المدرسة وله اتصالات آنذاك بكبار رجال السياسة وكان يصدر جريدة حائطية يعد كافة موادها بنفسه. ومن المثير للانتباه هنا أن منصور خالد وفي ذلك الزمن الباكر عهد إلى الصلحي بمهمة خطها على الورق المسطر وعمل رسومات إيضاحية لها. ومنصور خالد، وكان وقتها وزيراً للخارجية، هو صاحب فكرة أن توكل للصلحي مهمة إنشاء مصلحة للثقافة بوزارة الاعلام إلى جانب تنظيم العمل لمجلس قومي للآداب والفنون، إذ كان وزيرالثقافة وقتها يبحث عن شخص مناسب للمهمة، والطريف أن الصلحي وقتها كان يعمل بالسفارة السودانية بلندن، وكان الطيب صالح يعمل وقتها رئيساً لقسم الدراما بالقسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية، يقول الصلحي إن الطيب نصحه بالبقاء في لندن : " مالك ومال الغلبة يازول، أنت لا تعرف هؤلاء الناس العسكر، خليك هنا معانا، أحسن ليك يا زول ". لم يخيب العسكر على كل حال ظن الطيب صالح وقتها، بل وإلى حينه !

يذكر الصلحي بعض التفاصيل عن حياة المدرسة وأحوالها ونشاطات المدارس في ذلك الزمان، من ذلك رحلة مدرسية إلى جنوب السودان في العام 1948 زامله فيها الطيب صالح، يذكر فيها أنهم زاروا مستوطنة لمرضى الجذام. والمستوطنة هذه علي سبيل المناسبة كانت المستوطنة الأكبر لهذا المرض وقتها ولقيامها قصة طويلة ورد ذكرها في كتاب القدم الرّحالة (5) لمؤلفه ومنشيء المستوطنة الدكتور الكسندر كروكشانك، والكتاب ترجمه إلى العربية الدكتور طارق الهد.

من الكتاب يتضح للقاريء أن الصلحي لم يكن مجرد فنان تشكيلي مبدع، أو صانع صورة كما يشير هو إلى نفسه أحياناً، الحقيقة أنه مثقف موسوعي حقيقي، فهو حين يرى جمال ودقة صنع خزف باراكاس في البرازيل يتذكر خزف كرمة في شمال السودان. وفي شأن الثقافة الموسوعية والنفاذ لما خلف ظواهر الأشياء يقول الصلحي مثلاً أنه طوال فترة إقامته ببريطانيا كان مهتماً بالتعرف على ما وقر في نفوس الناس من قيم ومرتكزات، كذلك يتضح من الكتاب تسامحه العظيم وتفهمه للآخر المحتلف بل وإيجاد الأعذار له إن أخطأ في حقه. يذكر الصلحي في هذا الإطار قصص كثير ممن التقى بهم من الناس العاديين وأفكارهم وطريقة حيواتهم، من الزوجين الكنديين صاحبي مقهي التروبادور وتفاصيل المقهي، والعاملات السود في الفندق بنيواورليانز، والمرأة في العقد السادس من عمرها التي درست الطب ومارست العلاج الطبيعي وغيره ولكنها تركت كل ذلك لتركز على التأمل، وما عملها كخادمة في فندق إلا بسبب الحاجة المادية، وعن هذه السيدة بالتحديد يقول الصلحي إنه استمتع بالحديث معها وغالباً ما وجد نفسه مصدقاً لها.

ومن هؤلاء الأشخاص العاديين الذين اهتم الصلحي بالحديث عنهم السيدة فرجينيا ريك، المؤمنة بالسحر وبدلالات الرموز العددية، والكتاب حافل بمثل هذه النماذج من الناس في بلاد السودان وفي غيرها من بلاد الله. لذلك، أو لشيء من ذلك ربما لم يكن مستغرباً من الصلحي أن يقوم منذ بداية استقراره بأكسفورد بالانضمام إلى فرع الجمعية الفلسفية والتي كان كما ذكر سبق له الالتحاق بمركزها الرئيس في لندن في العام 1958.انتهت به واحدة من مغامراته في التعرف على طبائع الناس في بلاد العالم أن ذهب رفقة اثنين ممن تعرف بهما لماماً إلى عملهما الذي اكتشف في النهاية أنه عبارة عن السرقة والسلب أو الهمبتة التي تنتهي بضرب الضحية وسلبه ثم الهرب، قال الصلحي : عندها فقط أدركت مهنتهما في العمل، وقد تملكني رعب شديد، فجريت في الاتجاه الآخر بعيداً عنهما مهرولاً نحو بيتي !

إن فكرة الوجود الانساني بل ومعنى الحياة برمته والحكمة من ورائها أكثر عمقاً وتقدماً لدي الفنان الحقيقي كما بدا لي، والله أعلم !

الكتاب غني كذلك بالتفاصيل التي توضح طبيعة الحياة الاجتماعية، الاقتصادية وحتي السياسية في السودان في الفترات التي عاشها المؤلف. بالنسبة لي، أثبتت لي الكثير من التفاصيل المبثوثة عبر الكتاب ما صرت مقتنعاً به منذ فترة من أن السودان بلد سقط سهواً من أميركا اللاتينية ! الواقعية السحرية التي عرف بها كتاب أميركا اللاتينية من لدن غابرييل جارسيا ماركيز وجورجي أمادو ورفاقهم في وصف أحوال بلدانهم ومجتمعاتهم تجدها هنا في السودان هكذا عفو الخاطر وكأن لاشيء غريباً قد حدث. ثمة ضابط حطم سوق النسوان لمّا سأله حاكم البلاد لم لا يوجد مكان يكفي لوقوف السيارات ؟ دُمر السوق وتم نقل النسوة إلى مكان بعيد غرب أمدرمان، النسوة دعون على الحاكم دعوة مظلوم بالساحق والماحق والبلاء المتلاحق، فطفق الحاكم من يومه ذاك يهذي ويوسوس حتى انتهى به الحال في منفاه المفروض عليه يوسوس هناك. ومن حكايات زينب بت دليل عن كرامات شيوخها حكى الصلحي قصة شيخها بلاع المائة، الذي ابتلع تسعاً وتسعون وليّاً ولكن الأخير تعذر عليه لسبب طريف تذكره ثم تكمل القصة : " جبْ بلعه كله، يلحقني ويفزعني يا يُمّة، حَتْ، حَتْ، شوفوا شعرة جلدي كِيفِن كلّبَتْ ".

وفي واحدة من حلقات بيت الجاك البرنامج الذي قدمه الصلحي في تلفزيون السودان في الستينات يحكي قصة استضافته للشاب الذي عند دخوله لغرفته شعر بريح باردة كالثلج تهب ناحية جلوسه والوقت كان صيف الخرطوم القائظ، اتضح بعدها أن للشاب صديقاً من الجن المسلم طار به على بساط الريح صحبة أمه وأبيه وأوصلهم الهند في رمشة عين وهناك زوجه بأمرأة هندية ثم عاد بهم بأمان في نفس اليوم إلى السودان. وللشاب صاحب الجني قصص أخرى حكاها الصلحي. من الواقعية السحرية بل ربما الكوميديا السوداء السودانية ما قصه الصلحي عن زائر منتصف الليل الذي أيقظ الصلحي من عمق منامه ليخبره أنه الشيخ النشال، وأنه جاءه خصيصاً لإعانته ورد الاعتبار الرسمي إليه بما أوتي حظاً من الأسرار، ثم أخبره أنه سيعينه وزيراً في الحكومة التي حان أوان تشكيلها من قبل الرئيس النميري وقتها. وكمثال لنوعية خدماته يقول الصلحي إن الشيخ ذكر له اسم وزير يعرفه دارت شائعة حوله بأنه على وشك الإعفاء، فقال : " وهاهي عشرته لازالت في جيبي حارة، وصلتني من صاحبنا حارة ونحن في الطريق إليك ". الشيخ النشال أضاف بعدها أن الشيء بالشيء وأنه يحب المال محبته للنساء ! قصص الواقعية السحرية المبثوثة في الكتاب

دونما تقصد لسحريتها عديدة، لعل من أطرفها ما كانت أقرب إلى الكوميديا السوداء في ما حدث للصلحي في قصة سجنه.

والشيء بالشيء يذكر فربما يتذكر قاريء الكتاب قصص استعانة بعض حكام السودان بالسحر والسحرة، روي عن واحد منهم أنه كان يستقدمهم من بعض دول غرب إفريقيا ويهيء لهم المقام بفندق العاصمة الأكثر فخامة، هذا عدا عن المحليين منهم بالطبع. كذلك تتواترفي حكايات السودانيين قصص استعانة فرق كرة القدم بالسحرة أو من يسمونهم بالأنطونات.

لا يخلو الكتاب من القصص والملاحظات الطريفة، من ذلك قصة الشاب الشلكاوي المسيحي في السجن الذي قصّ للصلحي كيف أن صناعة المريسة وبيعها داخل السجن جعلت وضعه الاقتصادي أفضل منه وهو خارجه أيام كان يعمل بنّاءً " ميزانية صغيرة، لكن تمام ". وكذلك رأي سلمان الحلاق ذا الأصول النيجيرية في حلاقات الشباب وزجره لواحد من أبناء اخوان الصلحي : " سوالف يا كلب، حلاقة يعني كوريه " والعجيب أن الصالون كان اسمه صالون الزيزفون.

الكتاب مزين برسومات مختارة للصلحي عبر مسيرته الفنية، ومزين كذلك بالصور الفوتوغرافية للصلحي في مراحل وأماكن ومناسبات مختلفة، اللوحات تم اختيارها بعناية، وصور الصلحي مع الزوجات والأبناء تظهر جانباً من حياة الصلحي المحب والمخلص للعائلة وللأسرة الكبيرة، تزوج الصلحي مرتين، من سيدتين بريطانيتين في المرتين، ولا يذكر الصلحي تفاصيل ذلك أو تواريخه في الكتاب. كذلك فصورالأسود والأبيض مختارة بعناية تنقل القاريء إلى زمن آخر وتدفعه مقروناً بالكتابة إلى الرحيل إلى تلك الأزمنة والعوالم.

اسم الكتاب نفسه مستل من واحدة من أحوال الصلحي مع أمه : " قبضة من تراب، صرتها أمي، طيب الله ثراها، في صرّة قبضتها من موطىء قدمي يوم مغادرتي للدار بأمدرمان إلى خارج بلدي أول مرة ". لقد غادر الصلحي البلاد وفي نفسه أسى عظيم مما لاقاه فيها وعلى ما انتهت إليه، حزّ في نفسه أكثر ما حزّ أن يرمى به في السجن لا لذنب اقترفه إنما لنزوات العسكر وظنونهم، وفي ذلك كتب الصلحي الكثير من التأملات والقصص. قال الصلحي عن واحدة من سفراته إلى خارج السودان في مكان غير هذا الكتاب (6)  : " والله خرجت أبكي مرتين، مرة لأني أُفارق الأهل وهم كبار سن ولا أدري إن كنت سأراهم مرة ثانية أم لا، وبكيت من الفرح لأني مغادر السودان. مغادر لما رأيت من هم وغم ". السودان الذي أحبه ويظل يلهج به، ويقول عن حياته فيه في الزمن الغابر : " كنا رغم الفقر النسبي المفروض علينا وتقبلناه، كنا بغني النفس وعفتها، كنا أناساً من مرتبة عليا، وكبار نفوس عظماء، وغني النفس دعامة بيت الكرماء ".

يعجز هذا العرض للكتاب عن الاحاطة به أو باستعراض كاف لما جاء فيه، فقبضة من تراب هي بطريقة أو بأخرى كتابة لأحوال المثقفين السودانيين في سنوات التحولات الكبرى في السودان واتصالهم بالعالم، ربما ينطبق على هذه السيرة ما قاله الصلحي ذاته ذات مرة : " لا تعدو اللوحة من أن تكون مرآة، أداة ما، تأخذ المرء مجدداً إلى ذاته، يقلب النظر ملياً في دواخله ليعثر عليها، ومن ثم ينطلق في التأمل ".

....................................................

1- شرحبيل أحمد : الفنان التشكيلي وفنان الجاز السوداني المعروف.

2- أبو يزيد البسطامي : أبو يزيد طيفور بن عيسى بن شروسان البِسطامِي، هو عالم مسلم من أهل القرن الثالث الهجري، لقب بـ «سلطان العارفين»، والبسطامي نسبة إلى بسطام ببلاد فارس. قال بوحدة الوجود ونسبت إليه بعض الشطحات.

3- أحمد خير المحامي : من مؤسسي مؤتمر الخريجين وصناع استقلال السودان، عمل لفترة وزيراً للخارجية وله كتاب بعنوان " كفاح جيل ".

4- محمد المهدي المجذوب : الشاعر السوداني الكبير المجدد وصاحب الفتوحات الكبيرة في الشعر السوداني والعالم بتفاصيل الحياة السودانية وما تميزت به ووصف ذلك في أشعاره.

5- القدم الرّحالة : لمؤلفه الدكتور الكساندر كروكشانك والترجمة العربية للدكتور طارق الهد. صدر الكتاب المترجم في العام 2019 عن دار أوراق للنشر.

6- الكتاب المقصود هو " بيت الجاك، حوار مع الصلحي "، وأجرى الحوار فيه مع الصلحي الفنان التشكيلي فتحي عثمان. صدر الكتاب في العام 2011.