ثقافة وفن

غضب افتراضي عابر .. وجوع بيدوفيلي متمدد

سكينة بنزين الثلاثاء 15 سبتمبر 2020
IMG_6650
IMG_6650

AHDATH.INFO

عدنان لم يكن الأول. وفي كل مرة نأمل أن يكون ضحية ما هو الرقم الأخير، لكن الواقع أثقل مما نتمناه، وحتى لا تكون حملة التعاطف الواسعة على مواقع التواصل "زوبعة في جدران" العالم الافتراضي، دعونا ندس بعض الملح داخل هذا الجرح حتى يبقى مؤلما حاضرا لا يتوارى خلف حملات موسمية، وحتى لا ننسى أنه في عز التعاطف مع عدنان ، هناك ضحية آخر في مكان ما، يتوسل. يبكي. يتضرع دون أن تصلنا قصته لننعيه جماعة ، دون أن تنجح تدويناتنا في تغيير مصيره المؤلم.

لسنوات كتبنا حد التخمة حول الموضوع، واستحضرنا تحليلات اختصاصيين حذروا لمئات المرات من الظاهرة المعقدة التي عمل بعض التناول الإعلامي إلى تحويلها إلى "بضاعة رابحة" تحت عناوين مثيرة يتحول بعضها للتنذر والسخرية من "شخصية الوحش/الجاني"، وبدل أن تنجح الكتابة التي راهنت على إخراج الطابوهات من جحرها، في إضاءة الجوانب المظلمة للموضوع، أصبحت الكتابة تنتهي عند حدود "إشهار" الفاجعة دون الرهان على جرها نحو سكة النقاش الصحيح الذي من شأنه تقليل المآسي، وليس القضاء عليها نهائيا كما يحاول بعض التناول المتسرع و السطحي اقناعنا، أو من خلال خلط أوراق غير قابلة للخلط كربط الظاهرة بموضوع الحريات الفردية والعلاقات الرضائية والتحرش، متجاهلا أن هذه الجريمة البشعة تأخذ منحى مغايرا لمن يريد نقاشا حقيقيا بعيدا عن تسجيل نقاط في المرمى الخطأ.

حين تمر أمامك ملامح عدنان البريئة، تذكر أنها نفس ملامح كل الضحايا التي التهمها الفزع في آخر لحظاتها الأكثر رعبا وبشاعة،والتي لا ندري معها آخر ما دار بخلد ضحية واجهت وحيدة تراتبية سادية تمر من فعل الاغتصاب إلى التصفية .. لكن حين تحاول رسم ملامح ذلك المغتصب القذر، تربكك أوصاف متلونة خادعة قد تتوارى خلف ملامح جار بشوش. معلم ودود. صديق مهتم أكثر من اللازم. متدين ورع. كائن متفتح وآخر متزمت. مشتبه فيه فقير وآخر غني. متربص كتوم أو اجتماعي. عازب أو أب "مثالي" ، وزد عليها من أوصاف لا تسعف هذه السطور على حصرها... ومن هنا تكمن خطورة الظاهرة المرعبة، التي يحزنك فيها كمتتبع أن البعض يعتقد أن أسوأ ما فيها هي تعريض الضحية للقتل !!

قد يكون لذكرى الرحيل وقع ثقيل في قلوب الأحبة، لكن ماذا عن ذلك الجحيم اليومي الذي يعيشه الضحية إذا لم تنتهي نزوة جنسية شاذة بإزهاق روحه؟ ماذا عن صمته وانزوائه؟ماذا عن إحساسه بأنه متخلى عنه بسبب صمت مجتمع لا يتعاطف إلا إذا ختمت القصة بالدم، وكأنه يقول ضمنيا للجاني اغتصب لكن لا تقتل!!

إنه تواطؤ صامت نشهد عليه صباح مساء على مواقع التواصل، التي تعكس أكثر الدواخل ظلمة بما أنها بيئة آمنة لجبناء ومرضى يتوارون خلف شاشات بأسماء مستعارة، وأحيانا بأسماء حقيقية لا يفلح أصحابها في التكتم تحت ستار السخرية أو الانتقاد عندما يرعبوننا بتعاليق حول ملابس وأجساد طفلات، أو يتركون ما يقارب غزلا فاضحا لصور أطفال واهتمام بفارق سن. ونشهد عليه في الواقع ونحن نوشوش لبعضنا أن فلان يتحرش بطفلات أو يتبرص بمدارس وإعداديات،وأقصى ما نصل له هو مباركة البيدوفيليا في صورة زواج القاصرات .. ثم فجأة نستنكر الظاهرة في هبة واحدة على مواقع التواصل لا لشيء إلا لأنها موجة الأسبوع الافتراضية التي سرعان ما ستختفي وتختفي معها حلول "الدقيقة 90" لمن اختار اجترارها في دورة "النسخ واللصق" التي تعرفها مواقع التواصل على مدار 24 ساعة.

وليكون للموضوع فرصة امتداد حقيقي بعيدا عن "مزاجية وانتقائية" مواقع التواصل، يجب أن تكون البداية من الميدان ووفقا للمتاح بعيدا عن تنظيرات الحالمين أو مقتنصي "همزات المواقف"، ولابد هنا للتذكير بخصوص المطالبين للإعلام بالحديث عن الظاهرة، أن الصحفيين على امتداد رقعة هذا البلد تحدثوا عن الظاهرة صباح مساء لسنوات، وهنا لا بأس من فتح قوس عتاب : لماذا ُيقبل الناس بنهم على قراءة خبر من قبيل "فضيحة هتك قاصر"، ويزهدون في قراءة مقال تحت عنوان"هذه أهم النصائح لحماية ابنك من اعتداء جنسي" .. وهنا الكرة في ملعب الأسر والمجتمع المدني بعد أن مررها له الإعلام الذي حمل عبء ثقلها حين كانت كرة نار ملتهبة خارجة للتو من خانة الطابوهات، ليتهم الصحافي وقتها بأنه ناشر فضائح ومدعي لوقائع من نسج خياله، في رد فعل يعكس حالة الإنكار الجماعية التي يعيشها المجتمع تجاه أعطابه.

ولأن فصول القصة تنطلق من تفاصيل ما يؤثت المجتمع في يومياته الميدانية، حيث الإهمال داخل البيت والقسم والشارع، دعونا نوجه اللوم للأسرة والمدرسة والمجتمع المدني لنقطع كل الطرق التي تُيسر للبيدوفيل الوصول السهل لضحيته، لأن الرهان على تشديد العقوبة فقط ،أشبه بمن يقف عند نهاية الطريق لينتظر رثاء ضحية جديدة، بينما المطلوب اليوم الحماية والتوعية والمرور للفعل بالدرجة الأولى وفق المتاح دائما، باستحضار إرادة صادقة وشيء من المرونة التي تفتح باب التنسيق بين المؤسسات التربوية المدعوة اليوم لفتح أقسامها لمجتمع مدني مطالب بترك لقاءات الفنادق، ليتجه نحو التواجد اليومي حرفيا بفضاءات المدارس لتوعية الطفل بكثير أشياء، وفي مقدمتها ذلك الخطر الذي يتربص بجسده.

أولياء الأمور بدورهم مطالبين بالتخلي عن لامبالاتهم المبررة بالركض خلف لقمة العيش بالنسبة للأسر الفقيرة، أو الركض لتوفير الكماليات بالنسبة للأسر المتوسطة، أو الاعتقاد أن الخطر يعني دائما الآخرين، لتخصيص بعض الوقت من أجل الاستثمار في الأبناء كمشروع عمر يحتاج لدعائم صلبة خلال سنوات الطفولة، في تنسيق تام مع المؤسسات التربوية والمجتمع المدني، لخلق بيئة آمنة، تستحضر أبسط شروط السلامة، وفي مقدمتها لا تجاوب مع الغرباء. لا مكان للتخوف من الإفصاح عن تجاوزات قد يقوم بها أقرب المقربين. لا مكان للتسامح مع الجاني. لامكان للتستر باسم العيب.لا مكان للانغماس في عوالم افتراضية بعيدا عن رقابة الأهل. وأهم شيء لا مكان لموسمية التعاطف التي رفعت قبل عدنان، أسماء عشرات الضحايا الذين طواهم النسيان في زحمة "غضب افتراضي عابر" يظهر على استحياء ويختفي، مفسحا الطريق أمام جوع بيدوفيلي يتمدد واقعا وافتراضيا ..