كلمة الأحداث المغربية

زكية تسافر عبر الزمن

سعيد نافع الأربعاء 13 يناير 2021
Capt
Capt

AHDATH.INFO

كانت حياة زكية، ابنة القرية النائية المدفونة في مرتفعات الأطلس المتوسط، مسطرة بقدرية غير قابلة للتعديل مثلها مثل ملايين الصغيرات اللائي رأين النور هناك. كان على زكية أن تتوقف على الدراسة في سن الثانية عشرة، وتساعد والدها الفلاح البسيط في الزراعة المعيشية الصغيرة في محيط البيت القديم. كان عليها أن ‘‘تسرح‘‘ ما تبقى من ‘‘معيزات‘‘ العائلة التي تقلصت أعدادها بعد مقايضتها بعاديات الزمن. كان عليها أن تمسك بتلابيب الزمن العادي وأن ترضى بالحياة التي تورث هناك لكل نساء الجبل. كان عليها أن تحيا كل ذلك.. إلى أن كان لقاء عابر لم يدم سوى دقائق. ثواني ستغير كل هذا المكتوب بعالم أرحب.

جاء إلى القرية ابن عم زكية في زيارة صيفية خاطفة وكان معه صديقه أستاذ الفيزياء مصطفى. كان ابن العم يعيش في فرنسا ودأب على زيارة بيت عمه في كل صيف لتفقد الأحوال. في ليلة صافية، رافقت زكية الصغير ابن العم وصديقه في رحلة مشي قصيرة في منحدرات الأطلس. دار حوار علمي راقي بينهما وأصغت زكية التي كانت تحب الدراسة كثيرا.. باهتمام. لكن ما نفذ إلى قلب وعقل زكية كان شرحا سريعا، ولكن مفصلا وبديعا وغريبا من أستاذ الفيزياء، عن تلك النجوم التي كانت تتلألأ في السماء وخبايا إبصارنا لها.

همس أستاذ الفيزياء في أذن زكية وهو يشير لنجمة في السماء ‘‘ أترين يا زكية.. أنت لا تبصرين تلك النجمة في اللحزة التي نقف فيها هنا في الجبل.. لقد مضى وقت طويل استغرقه نورها ليصل إليك. ويمكننا حسابه بالمعادلات الرياضية. فقد  يعود شكل تلك النجمة التي ترينها الآن لمئات أو آلاف السنين.. وقد تكون قد اندثرت في الفضاء‘‘.

سكنت أسئلة متفرعة عقل زكية منذ ذلك اليوم : كيف يمكن لي أن أرى شيئا في الماضي ؟ وقد يكون غير موجود ؟ ما هو هذا العلم الذي يفسر مثل هذه الأمور الخفية والكبيرة ؟ ولماذا لا يحدثوننا عنه في المدارس ؟.. لم تجد أجوبة في الحال لكن زكية أصرت على أن تستمر في الدراسة والتحصيل إلى أن تصل للمستوى الذي سيمكنها من التوصل لكل الأجوبة. مضى الصيف شاقا في إقناع الأب بضرورة استمرار زكية في التعليم. وافق على مضض وبشروط كثيرة بعد تنسيق موسع شارك فيه الكثير من أقارب العائلة.. ممن لا يملك والد زكية أن يرفض لهم أمرا.

هذه الأيام، تبتسم زكية وهي تتذكر ذلك اللقاء، حين تقف على شرفة منزلها، تراقب نتف الثلج التي حولت محيط بيتها إلى سديم أبيض هناك في مدينة تورونتو الكندية، حيث تعيش منذ 14 سنة، وتشرف على مختبر الأبحاث الفيزيائية في الجامعة. تبتسم وتتذكر كم هي مدينة لذلك اللقاء بكل التحولات الكبرى التي حددت خطى حياتها فيما بعد. لقد زرع فيها صديق ابن العم حبا جارفا للمعرفة، سافر بها عبر الزمان وعبر المكان في رحلة لم تنته لاكتشاف كنه هذا الكون الفسيح.

حصلت زكية ابنة الأطلس على باكالوريا علمية بتميز خاص مطلع تسعينات القرن الماضي، ومكنها هذا التفوق من السفر لفرنسا للدراسة بجامعة مدينة بوردو حيث احتضنها ابن العم نفسه. تخصصت في الفيزياء الطبيعية وتفوقت هناك أيضا. بعد مناقشة دبلوم الدراسات العليا والدكتوراه في الفيزياء، في أطروحة كان عنوانها ‘‘السفر عبر الزمن.. لا مستحيل في الفيزياء الحديثة‘‘، رشحت للانتقال للتدريس في جامعة الكيبيك. أمضت سنتين في جامعة الكيبك، ورشحت مجددا للإشراف على مختبر الفيزياء في جامعة تورونتو.

كان هذا اختصارا مكثفا لإنجازاتها الأكاديمية.. زكية رصعت مسيرتها  بالكثير من الجواهر العلمية الثمينة.

حين يملأها الحنين، تعود زكية إلى القرية النائية المدفونة في الأطلس المتوسط لتجتمع بمن تبقى من ريحة ‘‘لبلاد‘‘. في كل ليلة تقتفي أثر تلك المشية السحرية التي فتحت عينا الفتاة الصغيرة على نجوم تلك الليلة البعيدة، في طقس شكر أبدي لمصادفة قادتها لمكانة عالية في العلم، أساسها الفضول والبحث بلا كلل.

فزكية.. ومنذ أن رفعت رأسها للسماء.. لم تنزله مجددا.