ثقافة وفن

لطيفة خليل.. حفيدة زرياب، سيرة الحلم والألم..

منعم وحتي الخميس 15 أبريل 2021
XFHo4U4r5pZ2l08sFKEIBOoDtoDXZGDzFskRSHm4
XFHo4U4r5pZ2l08sFKEIBOoDtoDXZGDzFskRSHm4

AHDATH.INFO

إن أصعب متاهات الكتابة أن تخط بيدك سيرتك الذاتية، دون نرجسية تلميع الذات، أو إعمال مقص الرقابة لإزالة بعض شوائب الحياة، رغم أن الانكسارات ملح الحياة وعادة هي كرز الحلوى ولو كانت مرة، فحُمرتها زينة الحكي.. لكن الأصعب أن ينساب قلمك في سرد سيرة الآخرين، بترجمة أحاسيسهم، أحلامهم، انهياراتهم ونجاحاتهم الخارقة.. هي لطيفة خليل لمن لا يعرفها !!

اكتشفت لطيفة بالدار البيضاء عالما خرافيا، لم تكن تعتقد بوجوده حتى في أحلامها.. حاولت الغناء في بعض العلب الليلية المعروفة بصالات غنائها، لكنهم كانوا أحيانا يمنعونها حتى من ولوج باب هاته المحلات بدعوى الإعاقة كمانع للدخول.. كم بكتْ حرقة على هاته الإهانة.. فكم أنت قاس يا وطني.. وستتاح للطيفة فرصة قبول صوتها في أحد أهم الفنادق، فكانت بدايتها في هذا المحل المعروف بقلب المدينة، وكانت الأجرة الأولى 150 درهم لليوم، وهي إذاك مبلغ كبير جدا بالنسبة لفتاة قادمة من الهوامش الى مدينة الأضواء.. ولنتخيل سوية ليلة حصولها على أجرتها الشهرية 4500 درهم.. لم تنم لطيفة تلك الليلة.. حيث لم تعرف فتاتنا ذات ال 18 ربيعا حتى ماذا تفعل بذلك المبلغ !! بدأت لطيفة تتذكر الوجوه التي كانت تصادفها على مجلات الفنانين التي كانت مولوعة بها، ورسمت صورة جميلة للطيفة في مخيلتها، وقالت غدا سأجعل من نفسي نجمة النجمات.. شدت من عزمها وكسرت كل رغبات الاكتناز وقررت الانتقام من مفهوم المال بتبديده وتعويض السنوات العجاف حيث كانت لا تستبدل حذاءها إلا بعد أن تتمزق جوانبه... اقتنت لطيفة زوجين من العدسات اللاصقة (Lentilles) باللون الأزرق السماوي الذي كان يستهويها، صبغت بعض خصلات شعرها بلون أشقر جذاب.. توجهت لشارع محمد الخامس لتفك عقدتها للمرة الثانية باقتناء حذاء أنيق من زمن سندريلا، وكانت البقية عطورا وفستانا،.. لكن الأكيد والمؤكد أنها انتقمت من المال ولم ترحم بقاءه في جيبها.. وكانت لطيفة لا تستوعب إن كانت تنتقم من المال أم من نفسها ؟!

انفتح أمام لطيفة مصباح علاء الدين، وأصبحت تقصد العلب الليلية التي كان أصحابها يمنعونها من دخولها بداعي الإعاقة للغناء فيها، خصوصا بعد أن أصبح اسمها لامعا في عوالم غناء الليل، فسبحان مغير الأحوال، أصبحت موضع ترحيب واستضافة بعد رفضهم لها عن ميز وجهالة.. إنهم قوم متقلبون برفض المبدإ وقبوله بدواعي الشهرة.. داع صيت موهبتها الغنائية في هاته الأوساط.. لكنها كانت بدون تأطير ولا بوصلة في اختياراتها.. كانت وفية ببعث مبلغ 2000 درهم كل أسبوع لأمها.. لكن العامل المحدد في نمط عيش لطيفة أن لا يبيت أي درهم في جيبها لليوم الموالي، كان حبا وانغماسا في الحياة لدرجة الجنون وانتقاما من سنوات عجاف من العوز.. ستعرف سنة 2003 مشاركة لطيفة في مهرجان الأغنية المغربية، لتفوز بجائزة المهرجان بأدائها الرائع، لتكون منحة الجائزة 30.000 درهم، وهو ما شكل ثروة هائلة لا تضاهى بالنسبة لها، وكاعتراف بموهبتها بشكل رسمي في مستوى أعلى، ليُفتح الوسط الفني على مصراعيه أمامها.. فهل ستظل الدار البيضاء حاضنة لهذا الصوت الملائكي ؟!

كانت تظن لطيفة أن الأمر بهاته السهولة، لكنها اكتشفت أن جزء كبيرا من أصحاب أستوديوهات التسجيل والمنتجين وكتاب الكلمات والملحنين، يستهويهم جمال جسم النساء وإثارتهن أكثر من خامة الأصوات والموهبة الغنائية. فتتالت الانكسارات تلو الانكسارات، وبدأت تقف لطيفة على هول غابة الفن.. وتوحش عوالمها.. فقررت الانغماس في عوالم غناء الليل لتستطيع أن تعيش، بدأ تتالي الأيام وتشابهها.. غناء وتقدير وانغماس في الحياة.. وعدم التفكير في أية ضمانة للمستقبل.. بل حتى أبسط شروط الحماية الاجتماعية منعدم.. وفي معرض الحكي عن الأمان المستقبلي أن ملهى ليليا وفر لها الضمان الاجتماعي في البداية لاستمالتها، لكنها اكتشفت بعد ذلك أن المحل لا يؤدي لها واجب الضمان الاجتماعي، لتنفجر لطيفة في وجه أصحابه أمام لؤمهم وجشعهم.. لتقرر لطيفة مغادرة المغرب في اتجاه دبي.. حيث اشتهرت في صالات الغناء هناك.. لقد فتنوا بصوتها.. وبعد ان اكتسحت أوساط الغناء هناك، بدأت أسطوانة مشروخة تروج بين أصحاب المحلات هناك بأن الزبائن يتأثرون لغنائها، ومنهم من يبكي رثاء لحالها، وهذا بالنسبة لمستثمري الأموال أمر غير مقبول، لأن هاته الأوساط حسبهم ليست فقط للغناء بل مورد ربح بنشر الفرح الزائف وليس الحزن على حسب تعبيرهم.. لتنتهي مغامرة لطيفة بالإمارات بعد ثلاثة أشهر فقط، لتتوجه إلى البحرين لتقضي بها مدة سنة في الغناء بفندق مملوك لمغربية هناك احتضنت صوتها.. لكن لطيفة كانت وفية لنهج تبدير كل ما تتحصل عليه من أموال، والتي تصل أحيانا إلى مبلغ 45.000 درهم شهريا هناك.. وقد كان إعجاب الناس بها منقطع النظير، حيث أن حسد بعض النساء سبب لها عدة مشاكل.. وكلنا يعرف اختلاط عدة عينات من البشر السيئين في هاته الأوساط.. إلى درجة أن إحدى رائدات الفندق فتشت ملابسها يوما للبحث فيها إن كانت تحمل تميمة تجعل الناس يعجبون بها.. ومرة أخرى مزقت إحداهن فستانها غيرة من احتضان الناس لموهبتها، وكل ذلك وقع رغم أنها مكسورة الجناح ولا تستطيع المشي على قدميها.. هل ستستمر مغامرة لطيفة بفنادق الخليج ؟!

بعد حوالي سنة بالبحرين، ومن شدة بكاءها واستعطافها لصديقتها صاحبة الفندق، ستطلب لطيفة العودة للمغرب، بعد انهيار أحلام الشهرة واستوديوهات الغناء والمنتجين والملحنين، لتعود لأجواء غناء الليل بالصالات والفنادق بالدار البيضاء، لتقف على واقع مرير لعالم الفن الذي لم يسمح لموهبة استثنائية في الغناء باحتضانٍ موسيقي يليق بها، في غياب أي توجيه أو تأطير، خصوصا أن رجال الأعمال يمولون كرة القدم وأنشطة ترفيهية أخرى(Sponsoring)، لكن حين يتعلق الأمر بالفن والإبداع فهم فقط مستهلكون لحظيون للمتعة، لأن الفنون بالنسبة لهم غير مذرة للربح..

ستكتشف لطيفة بعد ذلك أنها لم تذخر لانعراجات الزمن ما يحمي ظهرها في السنوات العجاف المستقبلية، وأن أزمة كورونا عرت زيف محيط صداقاتها المصلحية، رغم أنها تعترف أنها وقعت في حب مهاجر مغربي بإسبانيا، وأغرم بها عدة أصدقاء مغاربة وأجانب.. لكن لم تتح لأية من تلك العلاقات أن تكتمل.. وتحكي لطيفة أنه ليست كل علاقاتها السابقة سيئة، فذات ليلة وقعت في أزمة خانة وأوصدت كل الأبواب أمامها، وفي ذات الوقت، والزمن كان حاسما كانت صديقتها "غيثة" تقطع المسافات وتجتاز أضواء المرور بكل ألوانها وتحرق الأزقة وتعبر الممرات الممنوعة بشوارع البيضاء لتصل لصديقتها لطيفة بأسرع وقت ممكن وتخلصها من مأزقها.. كان ذلك نوعا من الصداقة الأسطورية التي أصبحت ناذرة الآن في زمن كورونا.. حيث لا منقذ لأمواج من الفنانين تحت حافة الفقر.

وبدأت تتراقص عدة أسئلة في مخيال تلك الطفلة -والتي لازالت طفلة للآن-، حيث أعاقت الحمى رجليها لكنها لم تعق قدرتها على التفكير والإبداع : هل من الضروري أن تبيع لطيفة جسدها لتبرز مفاتن صوتها ؟ لماذا لا يتم تأطير المواهب الغنائية فنيا ؟ أين أدوار وزارة الثقافة في حماية الفنانين وضمان حقوقهم ؟ هل من الضروري أن تدفع لطيفة سمسرة أو رشوة لاقتحام عالم الفن رغم قدراتها وموهبتها الفنية ؟ لطيفة لا تحتاج من يشفق عليها، إنها تحتاج من يقدر موهبتها ومهاراتها الصوتية حق قدرها.. هل في هرم الدولة من يتذوق الفن ويحمي المبدعات/المبدعين..؟