آراء وأعمدة

يونس دافقير يكتب: اليسار المريض!

طه بلحاج الأربعاء 30 يونيو 2021
GAUCHE 1
GAUCHE 1

AHDATH.INFO

لا يعرض الاشتراكي الموحد هذه الأيام برنامجا لتحقيق الكرامة، التي تدعو إليها خطاباته، بل يعرض علينا الغسيل الداخلي لنيران صراعاته الداخلية التي لا تخمد إلا لتشتعل من جديد. وبدلا من أن نكون بصدد نقاش حول القيمة المضافة لفعل اندماجي بين مكونات فيدرالية اليسار والتعديل الذي من شأنه أن يحدثه في ميزان قوى الصراع السياسي، ها نحن إزاء مناوشات حول «ديكتاتورية» نبيلة منيب و«انقلابية» محمد الساسي ومن مع الاندماج وضده، وهل اللائحة الجهوية للنساء أهم من الترشح في لائحة محلية!!

يجب أن نواجه حقيقة مرة: لم يعد هناك يسار، هناك خطاب شبه خطاب يساري وبضعة مناضلين يساريين وكثير من دكاكين شعب اليسار. ومن الواضح أن هذا اليسار ينتهي إلى مصيره الذي اشتغل عليه طيلة عقود: أن يظل في هامش الحقل السياسي، وأن يهرب من فشله في الميدان إلى خطاب مثالي حول الملكية البرلمانية، وأن يستنزف طاقته في هدر إمكانياته...

لماذا هو مصير حتمي؟ لأن تاريخ اليسار هو تاريخ انشقاقاته، وسيرة اختلافاته الموضوعية المبالغ فيها وحزازاته الشخصية المرضية.

منذ عقود استكان اليسار لحالة ولادته الإرادية الأولى: إنه الشعب المختار من إله النضال لإنقاذ الشعب، لكن هذا اليسار ينسى أنه حتى النبي محمد، الذي اختاره الله رسولا موحى إليه، كان عليه أن يصارع ويقاتل في الميدان، وأن يجدد خطابه باستمرار كي تنجح دعوته، لا أن ينتظر من الله نصرا دون عناء.

أما خارج هذا الاختيار الإرادي أو المفروض موضوعيا، فلا شيء يبدو أكثر أهمية من الاقتتال الذاتي، تقاتل اليساريون حزبيا حتى كاد عدد أحزاب اليسار يفوق عدد مناضليه، وتصارعوا نقابيا حتى انقسموا في أرض النقابات غير الواسعة ليفقدوا سلاحهم الضارب وسط زبنائهم التقليديين وسط العمال الفلاحين والطلبة، وبعد الأحزاب والنقابات انقسموا في الجمعيات الحقوقية، ورغم تبنيهم لخطاب اجتماعي شعبي لا أحد يحضر مسيراتهم النضالية غير بضع رفاق يتفرقون على جنبات الرصيف، وعند كل استحقاق انتخابي يحصون نزيف خسائرهم ليهربوا منه إلى تبرير لم يعد يقنع أحدا نحن مستهدفون! والحال أن السؤال بسيط أي قوة لديك وأي إزعاج تشكله حتى تكون مستهدفا؟؟

فقد جزء من هذا اليسار، ليس فقط قدرته على التهديد، والتي كانت تشكل مصدر قوته وقدرته على التفاوض، بل بوصلته السياسية والإيديولوجية أيضا وصار في خدمة التبييض السياسي لتيارات الإسلام السياسي الأكثر غموضا وراديكالية. وجزء آخر منه صار يغير تحالفاته كما يغير الرفاق الجدد ربطات عنقهم وهواتفهم الذكية، وهو لا يجد أي إشكال في الانتقال من تكتل سياسي إلى نقيضه ما دامت الغاية ليست هي وضوح الاختيارات بل العوائد المادية والرمزية لأشباه التحالفات.

ولدينا يسار آخر صار أقرب إلى وكالة للخدمات السياسية لمن يقدم مقاعد ومناصب أكثر بعد أن انهارت قواه الشعبية ولم يعد قادرا على العيش خارج هذا التنفس الاصطناعي. ثم هناك الحالة اليسارية الأكثر طفولية، في زنقة أكادير بالدار البيضاء يتم على قدم وساق تخريب مشروع يساري وحدوي كان بإمكانه إحداث فارق وسط اليسار والأحزاب، هذا اليسار المتعالي على خصومه وحلفائه يكاد لا يعرف أنه لم يعد يعيش إلا على الإرث المتقادم لمناضل شامخ من حجم محمد بنسعيد آيت إيدر.

لنتفق على مسألة أساسية، في تاريخهم القريب ظل اليساريون يحاربون بعضهم البعض أكثر مما يواجهون خصومهم، والأكثر كارثية أنهم يتسلحون بخصوم مشروعهم المجتمعي لتصفية بعضهم البعض معنويا وسياسيا. لم يعد اسم اليسار يرتبط بفكرة جديدة، ولا بأطروحة نظرية مبتكرة مثيرة للجدل والنقاش... صار ذكره مقرونا بالاستقالات، والانسحابات، والطرد وتجميد العضوية، وتبادل السب والشتم، ولم لا السخرية من بعضهم البعض في سؤال برلماني إلى رئيس الحكومة...

حين ظهرت بوادر هزيمة الإسلاميين، كان يفترض أن يكون هذا اليسار بديلا مجتمعيا جاهزا وليس انتخابيا فقط. لكن هذا اليسار لم يكن يهيئ نفسه لهذه اللحظة، على العكس من ذلك، وظف كل خطابه في فهم مغلوط للديمقراطية من أجل استدامة بقاء خصومه الإيديولوجيين في السلطة. وفي الحقيقة القاسية، هي ليست ممارسة مبدئية، هي هروب إلى الأمام من عدم الجاهزية ومن عدم القدرة على المنافسة. ومؤخرا سمعت قياديا يساريا يقول في إحدى المحطات الإذاعية أن حزبه سيدخل الانتخابات فقط كي ينقل وجهة نظر موجودة في المجتمع إلى داخل المؤسسات، يا للهول!! بعد نصف قرن من عمره، مازال هذا أقصى ما يطمح إليه يسار الطهرانية المغشوشة، والقاتلة.

يجب لهذه القسوة أن تذهب إلى مداها الأقصى: ما يفعله يساريو اليوم هو البعث بدماء وتضحيات المئات من الشهداء والمعتقلين الذين تشهد عليهم وثائق هيئة الإنصاف والمصالحة، إن السؤال الأكثر قسوة هو التالي: هل كان هؤلاء سيقدمون على كل تلك التضحيات التي دفعوا ثمنها من حياتهم ومستقبلهم ومستقبل عائلاتهم لو كانوا على علم بأنه مصير رسالتهم سيكون مأساويا بهذا الشكل؟ هل كانوا سيموتون من أجل الفكرة كي يأتي اليوم من يتقاتل فوق جثثهم من أجل الكراسي؟ ما يجري اليوم تنكر قاس جدا لكل الأجيال التي سبقت هذا الشتات إلى معبد اليسار.

هل ننتظر شيئا من هذا اليسار مستقبلا؟ لست واهما، لا شيء ينتظر منه سوى ترديد شعارات سطحية وخدمة أجندات سياسية غير يسارية، أما البرنامج اليساري في العدالة الاجتماعية وقيم المساواة فهناك من يطبقه اليوم دون أن يكون حاملا لأعباء تاريخ يساري لا يشرفه حاضره بالمرة.