مجتمع

زينب لعظم تكتب...من يد امرأة...

زينب لعظم/مسؤولة ميدانية بمشروع Farmer to Farmer مؤسسة الأطلس الكبير مراكش الثلاثاء 17 أغسطس 2021
unnamed-1
unnamed-1

AHDATH.INFO

هي: "أحلم بيدين جميلتين"

هم: (بسخرية) "كفاك حلما وهميا"

هي: (بتحدي) "بل سيصبح حقيقيا، وتأتوا وأمثالكم متفرجين لحضور قصة صاحبة اليدين الجميلتين !"

رفعت عيناي نحوها في ذهول بعد الدهشة التي اعترتني من كلامها المشفر، كان كل ما سألتها عنه "كيف حال المعيشة هنا؟"، فتلقيت جوابا موجعا قبل أن تبدأ بسرد قصتها وهي تفتح تلك اليدين وتقول "انظري لحال أيدي! " فإذا براحة يديها تغيب بين شقوق خشنة جافة تكاد تفتتها…

إنها السيدة -زهرة- خفيفة الروح، بشوشة الوجه، طيبة النفس، لكنها لا تخشى لومة لائم في إظهار أحلامها، اعتادت أن تمتطي ظهرجواد جامح، فترد بدهاء وشجاعة على استفزازات من أسمتهم بالمتفرجين. لقد جَعَلَتْ من هذا الحوار الذي شاركت معنا مطلعا للحديث الذي دار بيننا، وهي تسرد لنا قصتها من باطن قرية -تيميشي- ، قرية يكسوها الغيم الأبيض، إما أنه يخبئ حلم -زهرة- أو أنه سيسمو به في يوم من الأيام من أعالي هذه الجبال فيجعله أكثر بياضا و سطوعا.

تقول -زهرة- ولم تفارق محياها تلك الابتسامة العميقة "كلما أخبرتهم أن يداي تعبت من كثرة جمع الحطب وجلب الماء طوال هذه السنين أجدهم إما يسخرون، أو أن حالهم أصعب من حالي، إنني لا أرغب في تثبيط يدي عن العمل بالتأكيد لكنني أنظر إلى حالهما، وأطيل النظر لأعلم بعدها أنه لابد لي من بديل تختفي معه تشققات جلدي المؤلمة، لقد صار منتهى حلمي إراحة بدني من كل الآلام التي تنهشه وأنا في الخمسينات من عمري"...

سألت -زهرة- من جديد عمن يسخرون، عمت لحظة صمت ثم أجابت بشرود "أصناف البشر في الحياة كثر يا ابنتي، والوضع هو نفسه في قريتنا أيضا، نعم نعيش تحت نفس الظروف، لكن منا الصابرون على الفقر والصعوبات، الذين يطمحون لحياة أفضل ويعملون لأجلها، و منا المعارضون ـ هم قلة على كل حال ـ الذين لا يقبلون بالتغيير كيفما كان خصوصا إن كان من فاعلين من خارج مجالهم خوفا على المنطقة من الغرباء ومن ضياع أصولها وهويتها على حد قولهم، و منا السخيفين، وهؤلاء هم نفسهم من يترقبون ابنتي وهي تعاني من نوبات الصرع، أغلبهم أحس ببعض الاستغناء عن الانتماء لنا، وتناسى أيام كان جزءا منا بعدما اتسعت له الحياة ساعة من الزمن.

تابعت الخالة -زهرة- كلامها المعبر الموزون إلى أن وفدت النساء إلينا شيئا فشيئا، كل سيدة تدخل البيت الحجري بحماس وهي تحمل بيمناها صغيرها، وبالأخرى شهادة المشاركة في ورشة التمكين الذاتي التي أقيمت سنة 2019 من طرف مؤسسة الاطلس الكبير. لقد شكل حقا قدومهن ذاك مشهدا يفصح جهرا عن العلاقة التي تربطهن بالمؤسسة منذ ذلك الحين، مشهدا بهيجا ارتسمت من خلاله الفرحة والترحيب بفريق مشروع من فلاح إلى فلاح (F2F) الممول من قبل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID).

وبنفس الشقوق والتعب، ترى صفا من الأيادي الشجاعة تحمل هذه الأطفال الصغار وترعاهم وتفخر بحمل أول شهادة تقديرية في الحياة، إنها نفس الأيادي التي تجندت منذ زمن بعيد لتخفيف عبء معاناة العيش بتيميشي، إلا أن تقدير هذا الجهد طالما هو منعدم، لتترك هذه الشهادة لدى كل النساء أثرا جميلا في أنفسهن جعلهن يحتفظن بها باهتمام شديد، ويبتسمن كلما بدت الحياة كئيبة، فيتذكرن الأيام الجميلة التي قضينها في ورشة التمكين، ويتذكرن الصورة التي رسمنها عن أنفسهن من خلاله.

مع مرور الوقت خفت نظرات الدهشة، وحل الانسجام في الحديث، لنتقاسم مع النساء بعض التصورات حول التغييرات التي أحدثتها ورشة التمكين على المستويات الفردية والعائلية والمجتمعية والتي كانت أغلبها إيجابية، وإن كانت تدخلات جل النسوة تفيد بمحدودية وصولهن وسيطرتهن على الموارد بمجالهن الهش ذو الولوجية الصعبة والظروف الطبيعية القاسية.

ثم سرعان ما دخلت -ربيعة- بهرولة ملفتة، فتبادلت معها صديقاتها بعض البسمات وملامح القلق تبدو على محياهن، إذ أن -ربيعة- فتاة ذات شخصية محبوبة، دائما ما تلتزم بالحضور في الوقت منذ أيام الدراسة و كلما اجتمعن فيما بينهن، وليس من عادتها أن تتأخر. لتخبرنا أنها ما تأخرت إلا في قدومها من الدوار المجاور وهي تعبر تلك الطرق الصعبة….

ربيعة البالغة من العمر 16 سنة يشهد لها الكل على حبها للدراسة، لم تسهب كثيرا في الحديث، إلا أنها قالت "لقد كان لدي مخزون مهول من الصبر لأكمل دراستي، تمنيت في هذه الأثناء لو أنني قلت لك نعم أتممت دراستي، لكنني انقطعت منذ أن نجحت في المستوى السادس ابتدائي لعدة أسباب أهمها خوف والدي علي، ما حال دون الانتقال إلى سكن بالقسم الداخلي ". ثم تضيف باقتضاب" لعلني أستطيع إكمال تعليمي يوما ما !".

لقد تكلمت -ربيعة- وهي رابطة الجأش، قوية العزيمة، نافذة البصيرة، بالرغم من أنها تتذكر تماما تلك المعاناة التي حُفِرَتْ في بؤرة ذاكرتها، ونقشت نقشا في مخيلتها، وهاهي تجاهد من جديد للثبات على بعض الحرف اليدوية التقليدية التي أصبحت تتقنها حتى لا تعيد الأحداث نفسها.

ووسط ضجيج الحياة وصخبها، ومصائب الدهر وخطوبه، والزحام في الطرقات، وسط انشغال العقول، وضعف الأواصر الاجتماعية، وحياة التكنولوجيا، وسط كل شيء نعاصره ونحياه، اختارت -خديجة- أن تفر! اختارت أن تفر إلى كل ذاك مع أول فرصة ومن دون تردد، وهي تعلم أنها قد تفقد وبالمقابل أشياء عديدة!

تحكي و بحرقة وهي تسكت صغيرتها " اصطحبني زوجي معه إلى الدار البيضاء بمجرد أن تزوجنا، فغادرت -تيميشي- بفخر، وأنا أسمع الكل من حولي يردد عبارة -انتقلت خديجة للعيش في المدينة- كان ذاك كل ما أحلم به بعد ما ضاع مني حلمي (الأكبر)… كنت جد سعيدة في بداية الأمر، ثم سرعان ما بدأت هواجس الحنين تشدني إلى كل شيء في قريتي، بل وتشدني إلى حلم الصغر، عندما كنت أرى تيميشي و كأنها جناح جميل منعزل عن العالم بين هذه الجبال، وأن كل أشكال التهميش التي تستوطن المنطقة سيسهل تغييرها، لنستفيد من مدرسة للتعلم، ومستشفى حتى لا نفقد أحد أصدقائنا ونحن نلعب فتلدغه حشرة سامة، أو نفقد إحدى الخالات وهي في حالة مخاض... و لكن إلى الآن، مازال الأطفال يقطعون المسافات الطوال فقط لإتمام التعليم الابتدائي، ولازلت النساء تعاني الأمرين...، والرجال مغلبون على أمرهم، قد ودعوا الفلاحة منذ فترة طويلة في مجال متضرس تقل به الأراضي الفلاحية، و التجأ أغلبهم لمهنة البناء، ثم أصبحت الهجرة الخيار الذي لا سبيل سواه !

وإن كان كل من يهاجر يترك ورائه عائلة وذكريات لن يستطيع أن يهجرها، وأنا أيضا كنت ممن لم تقوى نفسهم على العيش خارج مسقط رأسه بتاتا، فصار لابد لي من زيارات عديدة لقريتي لأحس بالدفء الذي افتقده في الدار البيضاء، وأجدني أحدث نفسي في كل زيارة لعلني أصادف يوما ما بوادر التغيير قد بدأت ترتسي في المنطقة، فلا أحتاج لا أنا ولازوجي أن نظل هناك، بل نعود ونشارك في التغيير".

تكمل -خديجة- بابتسامة "حتى أن التكوين الذي أشرفت عليه مؤسسة الأطلس الكبير آنذاك، قد أدركني هنا من كترت ما أزور تيميشي، فشاركت فيه بشغف بالغ لتطابق محاوره مع ما أبتغي من تغيير ذاتي داخل هذا الوسط منذ زمن بعيد" .

لقد أيقنت من كلامهم حينها أن الأعوام فعلا تمر ويخفت بريق أعيننا قليلاً تجاه تلك الأحلام الأولى، لا لشيء ولكن فقط لأنها لم تتحقق! ثم يتسلل اليأس إلينا شيئاً فشيئاً حتى نظن أنها أصبحت أحلام غير قابلة للتحقيق، أحلام لمجرد الأحلام فقط. وبعدها نبدأ في رسم أحلام جديدة على أمل تحقيقها هذه المرة ولكن أين تذهب أحلامنا القديمة؟ إنها حقاً لا تتلاشى.. بل تظل محفورة في الذاكرة وعند أول ذكر لها يطرب القلب مجدداً لأمل قديم…

وبذلك ففي الجانب المضيء من هذا اليوم، فقد صادفت هذه الزيارة أشغال تهيئة الطريق الجبلية الموصلة لتيميشي، بالموازاة مع انطلاق المهمة التي قدم من أجلها مشروع من -فلاح إلى فلاح- بإشراف من مدير المشروع السيد -مولاي حسن العدلوني- إذ تمثلت المهمة في تصميم نظام ري فعال يتضمن قناة مياه مقنطرة فوق وادي اوريكة، بعمل تم تقديمه من قبل المتطوع المحلي الدكتور- مصطفى عيشان- والمتطوعة الأمريكية عن بعد السيدة -شيماء صنهاجي- من أجل حل مشكل الفيضانات الذي تعاني منه تيميشي والدواوير المجاورة، وكذا توسيع المساحة الصالحة للزراعة مع زيادة كفاءة استخدام المياه.

لقد اتضحت حقا وحدة السكان وسعيهم وراء ما يعود بالنفع على المنطقة، و برهنوا على هذه الوحدة بالتزامهم الشديد حيال المهمة، و ماكان من النساء إلا أن يسعدن بهذه البداية المبشرة، ويعلنن عن استعدادهن لمختلف الخطوات المستقبلية. فكما أكدت بإصرار امرأة كبيرة في السن بصوت مرتجف متشبع بالإصرار "مهما عشنا من الصعاب، فقد امتزجنا امتزاجا عضويا مع هذا التراب، لن نترك بلدتنا، هنا ولدنا وهنا نموت".

وانقضى اليوم وغادرنا -تيميشي- تحت نفس ستار الغيم الذي انفتح لنا ونحن ندخلها في الصبيحة، ولن تغب أبدا عن الذاكرة جمالية المكان التي تشغلك عن طول الطريق، وصعوبة الولوج لهذه القرية الكأداء المخضرة بأشجار الجوز، أشجار تعمقت جذورها وهي تعانق تربتها الطاهرة بين سكان يستمدون منها الطاقة، فيسكبون في النفس رشفات الأمل، وأطفال أبرياء لابد أن يبعثوا لك بابتسامات مشرقة، ونساء صامدات رغم كل التحديات. لقد ترك حقا كل منا لدى الآخر أثرا طيبا وجميلا، أثرا بنيت معه جسور الثقة لخلق فرصة تتماشى مع قدرات وإمكانيات المرأة المحلية بتيميشي.

إن هؤلاء النسوة هن أيضا كباقي نساء العالم أحلامهن كبيرة و واقعية، وإن باتت تضمحل أمام صعوبة الحصول عن القوت اليومي، ومواجهة قساوة الظروف الطبيعية، و وحشة العزلة، والعجز عن تحقيق حياة أفضل لأطفالهن…

إنهن عنوان الصبر والجد والعمل، كيف لا؟ وطبيعة معيشتهن كلها مقاومة وكفاح، فبينما الآخرون يتمتعون برغد العيش هناك، هن يصارعن من أجل البقاء هنا، وينتظرن لحظات الفرج، لحظات طال غيابها، إلا أنهن أيقن دائما أنها حتما ستأتي، وتتحقق أحلام الصغار كما الكبار،ويكتمل حلم زهرة وربيعة وخديجة وباقي النساء، فتشرق قصة تيميشي التي بدأت من معاناة يد امرأة، وستنطلق من يد امرأة...