السياسة

باتفاق مع الاستقصائي الأمريكي Ian Urbina.. أحداث أنفو تنشر تحقيقا عن جحيم معتقل المهاجرين السريين بليبيا(2/1)

أحداث أنفو الثلاثاء 21 ديسمبر 2021
maxresdefault
maxresdefault

AHDATH.INFO

مجموعة من المستودعات على طول الطريق السريعة في حي غوط الشعال، وهو حي يتكوّن من محلات تصليح السيارات وساحات الخردة في غرب العاصمة الليبية طرابلس. كان الموقع في السابق مستودعا لتخزين الإسمنت والخرسانة، وقد أعيد فتحه في جانفي/كانون الثاني 2021 وتم رفع جدرانه مؤخرا وتغطيتها بالأسلاك الشائكة. يقف عشرات الرجال في زيّ مموّه باللونين الأسود والأزرق مسلّحين ببنادق كلاشينكوف حول حاوية شحن زرقاء تبدو كمكتب. وعلى البوابة الأمامية، لافتة كُتب عليها "محكمة ملاحقة المهاجرين غير الشرعيين". في حقيقة الأمر، نحن أمام منشأة هي عبارة عن سجن سري للمهاجرين يُعرف باسم مركز "المباني".

مشهد عام لموقع الاحتجاز المسمى المبانيCredit: Pierre Kattar/The Outlaw Ocean Project

 

في الساعة الثالثة صباحا من الخامس من شهر فيفري/شباط 2021، أخذ رجال مسلّحون أليو كاندي، مهاجر قصير وقوي وخجول من غينيا بيساو، يبلغ من العمر 28 عاما، إلى السجن. كان كاندي قد غادر منزله قبل عام ونصف إثر فشل مشروعه المتمثل في مزرعة ليلتحق برحلة هجرة للانضمام إلى إخوته في أوروبا.

ولكن أثناء عبوره البحر الأبيض المتوسط على متن قارب مزدحم مع مائة وثلاثين من المهاجرين غير النظاميين، اعترض خفر السواحل الليبي طريق هذه المجموعة وتمّ نقل الجميع إلى السجن. ووقع وضع المهاجرين في الزنزانة رقم 4 التي كانت تضمّ نحو 300 معتقل. لم يكن هناك مكان للجلوس، وقد اضطر المهاجرون الموجودون على الأرضية إلى فسح المجال لتجنّب التعرّض للدهس.

لم يتمّ إطفاء مصابيح الفلورسنت الموجودة في السقف مطلقا. شبكة صغيرة في الباب، بعرض قدم واحد، كانت المصدر الوحيد للضوء الطبيعي. تعشّش الطيور الهاربة من حظيرة مجاورة في العوارض الخشبية، وتتساقط فضلاتها وريشها من الأعلى. جلس كاندي في زاوية بعيدة وبدأ يشعر بالذعر. وسأل زميلا له في الزنزانة "ماذا عسانا أن نفعل؟".

لم يعلم أحد من خارج مركز المباني أنّ كاندي قد تمّ القبض عليه. لم يتمّ اتهامه بارتكاب أي جرم، ولم يُسمح له بالتحدث مع محام، ولم يقدّم له أي مؤشر عمّا إذا كان سيُسمح له بالمغادرة يوما ما.

في الأيام الأولى، بقي منعزلا خاضعا للروتين القاتم للمكان. كان السجن خاضعا للواء الزنتان، إحدى أقوى الميليشيات في ليبيا. ويقوم جنود اللواء بدوريات في المجمع.

كان هناك حوالي 1500 مهاجر محتجزين في ثماني زنزانات مفصولين حسب الجنس. لم يكن هناك إلا مرحاض واحد لكلّ مائة شخص. وكان على كاندي في كثير من الأحيان التبوّل في قارورة ماء أو التبرّز في الحمامات.

ينام المهاجرون على مراتب أرضية رقيقة موبوءة بالقمل والجرب والبراغيث، لم يكن هناك عدد كاف من المراتب، لذلك كان كلّ مهاجريْن اثنين يتناوبان على النوم، أحدهما أثناء النهار والآخر في الليل. وكان المحتجزون يتشاجرون حول من يتسنى له أن ينام في الحمام باعتبار أنه المكان الوحيد الذي توجد به تهوئة.

كانوا يسيرون مرّتين في اليوم في صفّ واحد في فناء السجن لتناول وجبات الطعام، وكانوا ممنوعين من النظر إلى السماء أو الحديث أثناء المسير. كان الحرّاس، على غرار حرّاس حدائق الحيوانات، يضعون أوعية طعام مشتركة على الأرض، ليتجمّع المهاجرون في حلقات لتناول الطعام على الأرض.

كان الحرّاس قساة ويضربون المسجونين الذين يخالفون الأوامر بواسطة كلّ ما كانت تطاله أيديهم، مجرفة أو خرطوم أو كابل أو غصن شجرة.

يتحدث توكام مارتن لوثر، وهو رجل متقدّم في السن كان ينام على السجادة بجوار كاندي، عن هذه المأساة الإنسانية التي يكابدها صحبة بقية المهاجرين غير النظاميين في هذا السجن:

"كانوا يضربون أي شخص دون سبب على الإطلاق".

كان المحتجزون يعتقدون أنّ الحراس كانوا يرمون كلّ من يموت بالقرب من كومة من الطوب والركام خلف أحد الجدران الخارجية للمجمع. وكان الحراس يمنحون المهاجرين حرّيتهم مقابل مبلغ قدره 2500 دينار ليبي - أي ما يعادل تقريبا 500 دولار أمريكي.

أثناء وجبات الطعام، كان الحرّاس يتجولون حاملين هواتف خلوية ويعرضون السماح للمحتجزين بالاتصال بأهاليهم القادرين على دفع المال. لم تكن عائلة كاندي قادرة على دفع الفدية، ممّا جعله عالقا. ويقول لوثر في نفس المضمار: "إذا لم يكن لديك شخص يمكن الاتصال به للمساعدة فيجب أن تكتفي فقط بالجلوس هناك".

بطل التحقيق المهاجر السري آليو كاندي Credit: Jacaria Candé

في السنوات الست الماضية، أنشأ الاتحاد الأوروبي، الذي سئم التكاليف المالية والسياسية للمهاجرين القادمين من إفريقيا جنوب الصحراء، نظاما غامضا يوقفهم قبل أن يصلوا إلى شواطئ أوروبا. قام الاتحاد بتمويل خفر السواحل الليبي وتدريبه وتجهيزه، وأصبح هذا الجهاز  منظمة شبه عسكرية تقوم حاليا بدوريات في البحر الأبيض المتوسط حيث تمنع بذلك عمليات إنقاذ المهاجرين الذين تعتقلهم قبل إعادتهم إلى التراب الليبي. بعد ذلك  يتمّ احتجاز المهاجرين إلى أجل غير مسمّى في نظام معسكرات الاعتقال في ليبيا.

تُدار السجون عادة من قبل إحدى الميليشيات القوية المتنافسة في ليبيا. في الأشهر السبعة الأولى من العام الحالي 2021، تم إرسال حوالي 6000 مهاجر إلى هذه السجون ونُقل معظمهم إلى سجن "المباني". وقد وثقت وكالات الإغاثة الدولية مجموعة من الانتهاكات على غرار تعرّض المعتقلين للتعذيب بالصدمات الكهربائية واغتصاب أطفال من قبل حرّاس وابتزاز العائلات من أجل الحصول على فدية، إلى جانب بيع الرجال والنساء للعمل القسري.

يقول وزير العدل الليبي السابق صلاح المرغني في هذا الإطار:

"الاتحاد الأوروبي قام بشيء فكّر فيه بعناية وخطّط له لسنوات عديدة، وهو خلق فجوة من الجحيم في ليبيا بهدف ردع الناس عن التوجه إلى أوروبا".

بعد مرور ثلاثة أسابيع من تاريخ وصول كاندي، وضعت مجموعة من المعتقلين خطة للهروب. موسى كروما، مهاجر من ساحل العاج، إلى جانب عدّة أشخاص آخرين، قضوا حاجتهم في سلّة مهملات وتركوها في ركن الزنزانة لمدّة يومين حتى أصبحت الرائحة الكريهة لا تُطاق. ويقول كروما في هذا الصدد "كانت تلك المرة الأولى في السجن… لقد كنت مذعورا".

عندما فتح الحرّاس أبواب الزنزانة، اندفع نحوهم تسعة عشر مهاجرا وصعدوا فوق دورة مياه منخفضة السقف وقفزوا من فوق الجدران بمسافة 15 قدما واختفوا في منطقة من الأزقة قرب السجن.

وقد كانت العواقب دموية بالنسبة لمن بقي من المهاجرين. استدعى الحرّاس تعزيزات وأطلقوا النار على الزنازين قبل أن يبدأوا في ضرب المحتجزين. وقال أحد المهاجرين لمنظمة العفو الدولية لاحقا "كان هناك شخص في جناحي قاموا بضربه بمسدّس على رأسه أغمي عليه وبدأ يرتجف". وأضاف: "لم يطلبوا سيارة إسعاف لنقله في تلك الليلة، كان لا يزال يتنفّس ولكنه لم يكن قادرا على الكلام. لا أعرف ماذا حدث له. لا أعلم ماذا فعل".

في الأسابيع التي تلت ذلك، حاول كاندي الابتعاد عن المشاكل وتمسّك بإشاعة مفعمة بالأمل سمعها في أرجاء السجن ومفادها أن الحرّاس كانوا يعتزمون إطلاق سراح المهاجرين الموجودين بزنزانته بمناسبة شهر رمضان، وذلك في غضون تسعة أسابيع. سجّل لوثر الحماس الذي انتشر في السجن في دفتر يوميات كان يحتفظ به. وكتب "الرب خارق.. أتمنى أن تستمرّ رحمته في حماية جميع المهاجرين في جميع أنحاء العالم وخاصة في ليبيا".

ظروف احتجاز قاسية بمركز المباني Credit: Pierre Kattar/The Outlaw Ocean Project

خلال سنة 2010، أصبح العالم يتحدّث عن أزمة المهاجرين، عندما بدأت المنظمات الإنسانية في ملاحظة ارتفاع عدد الأشخاص المتدفقين إلى أوروبا. كان المهاجرون يفرّون من الحروب في الشرق الأوسط ومن حركات التمرّد في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، فضلا عن آثار تغيّر المناخ كالجفاف وفشل المحاصيل والتصحّر السريع. في الخمسين عاما المقبلة، يتوقّع البنك الدولي أن يتسبّب الاحتباس الحراري في تشريد مائة وخمسين مليون شخص آخرين من نصف الكرة الجنوبي ممّا سيزيد من الهجرة نحو أوروبا.

في ذروة الأزمة، سنة 2015، قدم مليون مهاجر إلى أوروبا من الشرق الأوسط وأفريقيا في عام واحد. المأساة الكبرى الأولى وقعت سنة 2013 عندما اشتعل قارب يقلّ إريتريين وغرق في البحر الأبيض المتوسط، على بعد أقلّ من ميل واحد من إيطاليا، ممّا أسفر عن مقتل 360 شخصا.

كانت الغريزة الأولى السائدة في أوروبا هي التعاطف. المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قالت "نستطيع فعل ذلك" متعهدة بوضع سياسات هجرة ليبرالية، وهو الموقف الذي جعلها تكسب شخصية العام لمجلّة تايم سنة 2015.

لا تبتعد شواطئ إيطاليا عن شمال إفريقيا إلا بضع مئات الأميال. في بداية سنة 2014، أصبح ماتيو رينزي، ابن التاسعة والثلاثين عاما، أصغر رئيس وزراء في تاريخ البلاد. كان رينزي ليبراليا وسطيا يتّسم بطلاقة اللسان على غرار بيل كلينتون، وكان من المتوقع أن يهيمن على سياسة البلاد خلال العقد المقبل.

التزم، مثل ميركل، باستقبال المهاجرين قائلا: "أوروبا عندما تدير ظهرها عن الجثث الموجودة في البحر لا تستحق أن تطلق على نفسها صفة حضارية".

وقف رينزي وراء برنامج بحث وإنقاذ طموح أُطلق عليه "عملية مار نوسترام"، أو "بحرنا"، والذي ضمن المرور الآمن لنحو 150 ألف مهاجر وقدّم لهم الدعم القانوني لمساعدتهم في طلبات اللجوء. وبحسب المفوضة الأوروبية السابقة للشؤون الإنسانية إيما بونينو، فقد طلبت حكومة رينزي سنة 2014 استقبال كلّ مهاجر قادم من ليبيا.

ومع استمرار المدّ بلا هوادة، تحوّلت ازدواجية المشاعر تجاه المهاجرين في أوروبا إلى رفض لهم. يصل المهاجرون ومعهم متطلّبات الرعاية الطبية والوظائف والتعليم مما يؤدي إلى استنزاف الموارد. يقول خبير الهجرة في المعهد الفرنسي للدراسات المتقدمة جيمس هوليفيلد "إنهم في معضلة هائلة. يتعيّن على الدول أن تجد طريقة لتأمين حدودها دون تدمير جوهر الدولة الليبرالية". بدأت الأحزاب السياسية والقومية مثل حزب البديل من أجل ألمانيا وحزب الجبهة الوطنية الفرنسية في استغلال الوضع لتعزيز كراهية الأجانب.

وكانت جملة من الاعتداءات طالت شابات بكولونيا في ألمانيا سنة 2015 على أيدي رجال قدموا من شمال إفريقيا، إضافة إلى هجوم على سوق لعيد الميلاد في برلين عام 2016 أسفر عن مقتل 12 شخصا وخطّط له طالب لجوء قادم من تونس، قد أدّت الى مزيد تأجيج المخاوف لدى الأوروبيين.

كانت عملية "مار نوسترام" التي قد دعمها رينزي قدّ كلّفت حوالي مائة وخمسة عشر مليون أورو، وهي تكلفة لم تستطع إيطاليا، التي كانت تكافح لتفادي ركودها الثالث خلال ست سنوات، تحمّلها. وتعثّرت جهود نقل مهاجرين من إيطاليا واليونان، إذ لم تقبل كلّ من بولندا والمجر - اللتان يديرهما زعماء من اليمين المتطرّف- باستقبال شخص واحد. في حين تحدّث مسؤولون نمساويون عن بناء جدار على حدودها مع إيطاليا. سخر سياسيو اليمين المتطرّف في إيطاليا من رينزي وندّدوا به وشهدوا ارتفاعا في نسب استطلاعات الرأي. استقال رينزي في ديسمبر/كانون الأول من سنة 2016 وقد تراجع في نهاية المطاف حزبه عن السياسات التي اتخذها. وقد تراجع بدوره عن الكرم الذي أبداه في البداية حيث قال "نحن بحاجة إلى تحرير أنفسنا من الشعور بالذنب. ليس لدينا واجب أخلاقي للترحيب بمن هم أسوأ حالا منا في إيطاليا".

خلال السنوات التالية، شرعت أوروبا في اتباع نهج مختلف بقيادة أحد المقرّبين من رينزي يدعى ماركو مينيتي والذي أصبح وزير داخلية إيطاليا. كان مينيتي، وهو نجل ضابط سابق، صريحا بشأن ما رآه خاطئا في سياسة رينزي. وقد قال: "لم نردّ على شعورين كانا قويّين للغاية.. الغضب والخوف".بناء على إلحاحه، أنهت إيطاليا التزامها بإجراء عمليات البحث والإنقاذ على بعد ثلاثين ميلا  من شواطئها. بدأ الاتحاد الأوروبي في رفض القوارب الإنسانية التي تحمل مهاجرين تم إنقاذهم من النزول في موانئه. حتى أن إيطاليا قامت بمقاضاة قادة هذه القوارب بتهمة المساعدة في الاتجار بالبشر. وسرعان ما أصبح مينيتي يُلقّب بـ"وزير الخوف".

مهاجرون سريون محظوظون بإنقاذهم من قبل خفر السواحل Credit: Ed Ou/The Outlaw Ocean Project

سنة 2015، ساعد مينيتي الاتحاد الأوروبي على إحداث برنامج أُطلق عليه "الصندوق الائتماني الأوروبي للطوارئ من أجل إفريقيا" والذي أنفق منذ ذلك الحين ما يقارب 6 مليارات دولار. ويصوّر مؤيدو الصندوق هذا البرنامج على أنه يسهّل التنمية، مشيرين إلى أنه تمّ ساهم في جهود الحدّ من انتشار كوفيد 19 في السودان والتدريب على الأعمال الخضراء في غانا. ولكن في الواقع، يتضمّن الكثير من عمل الصندوق الضغط على الدول الأفريقية لتبنّي قيود على الهجرة أكثر صرامة ومن ثمّ تمويل حماية الحدود والجماعات العسكرية التي تطبّقها لاحتجاز المهاجرين الأفارقة قبل وصولهم إلى أوروبا.

ينقل البرنامج بشكل فعّال حدود أوروبا إلى الحافة الشمالية لإفريقيا ويستعين بمصادر خارجية لحفظ الأمن. في 2018، سأل أعضاء من البرلمان الأوروبي المفوضية الأوروبية عن "قائمات التسوق" المزعومة التي أرسلها مسؤولون من النيجر للمطالبة بهدايا من السيارات والطائرات والمروحيات مقابل دعمهم لدفع السياسات المناهضة للهجرة.

أموال الصندوق صُرفت أيضا على الأجهزة القمعية للدول. في أثيوبيا، سمح البرنامج للاتحاد الأوروبي بمشاركة البيانات الشخصية للمواطنين الإثيوبيين مع جهاز المخابرات في البلاد والذي له تاريخ في اعتقال المتظاهرين ومعاملتهم بقسوة.

في السودان، تمّ استخدام الأموال لإنشاء مركز استخبارات للشرطة السريّة في البلاد والتي استخدمت أيضا الموارد لقمع المظاهرات المحلّية.

يتم صرف الأموال وفقا لتقدير الفرع التنفيذي للاتحاد الأوروبي والمفوضية الأوروبية، ولا يخضع للتدقيق من قبل البرلمان. (يقول متحدث باسم الصندوق الاستئماني "تهدف برامجنا إلى إنقاذ الأرواح وحماية المحتاجين ومكافحة الاتجار بالبشر وتهريب المهاجرين").

كان مينيتي يتطلّع إلى ليبيا، التي كانت آنذاك دولة فاشلة، لتكون الشريك الأساسي للاتحاد الأوروبي في الحدّ من الهجرة إلى أوروبا. في عام 2011، تمت الإطاحة برجل ليبيا القوي، معمر القذافي، وقتل في تمرّد أشعله الربيع العربي وبدعم من الغزو الذي قادته الولايات المتحدة. ومنذ ذلك الحين، أصبحت البلاد دولة فاشلة.

في سافر 2017، سافر مينيتي إلى طرابلس لعقد صفقات مع حكومة البلاد في ذلك الوقت وأقوى ميليشياتها.

وقّع الاتحاد الأوروبي وإيطاليا وليبيا مذكرة تفاهم توضّح التعاون و"تؤكد مجدّدا التصميم الحازم على التعاون في تحديد حلول عاجلة لقضية المهاجرين غير النظاميين الذين يعبرون ليبيا للوصول إلى أوروبا عن طريق البحر".

في السنوات الست الماضية، خصّص الصندوق الاستئماني نصف مليار دولار لدعم الهجوم الليبي على الهجرة.

يعتبر وزير العدل الليبي السابق المرغني في نفس السياق أن الهدف من البرنامج واضح ويقول: "جعلوا من ليبيا الشخص السيء. جعلوا من ليبيا قناعا لسياساتهم بينما يقول البشر الطيبون في أوروبا إنهم يقدمون الأموال للمساعدة في جعل هذا النظام الجهنمي أكثر أمانا".

يقول مينيتي إن "الخوف الأوروبي من الهجرة غير المقيّدة هو شعور مشروع ويجب على الديمقراطية أن تستمع إليه". أدت سياساته إلى انخفاض حادّ في عدد المهاجرين. في النصف الأول من العام الحالي 2021، وصل أقلّ من 21 ألفا إلى أوروبا عن طريق البحر الأبيض المتوسط

وقال مينيتي للصحافة سنة 2017: "ما فعلته إيطاليا في ليبيا هو نموذج للتعامل مع تدفقات المهاجرين دون إقامة حدود أو حواجز من الأسلاك الشائكة". (غادر مينيتي منذ ذلك الحين الحكومة وأصبح يترأس حاليا مؤسسة "ميد أور"، وهي مركز تفكير متخصص في الصناعات الدفاعية، رفض التعليق حول هذا الموضوع).

أشاد الجناح اليميني الإيطالي، الذي ساهم في الإطاحة برينزي، بعمل مينيتي. وقال زعيم رابطة الشمال القومية الإيطالية ماتيو سالفيني: "عندما اقترحنا مثل هذه الإجراءات تمّ تصنيفنا على أننا عنصريون". وأضاف "الآن، أخيرا، يبدو أن الجميع يفهم أننا كنا على حق".

والدا المهاجر السري كاندي وخما يحملان صورة عائلية Credit: Ricci Shryock/The Outlaw Ocean Project

نشأ كاندي في مزرعة بالقرب من قرية سينتشان ديمبا غيرا النائية في غينيا بيساو. لم يكن يوجد بالقرية استقبال خليوي أو طرق معبّدة أو سباكة أو كهرباء. كان يعيش في منزل من الطين نصفه أصفر ونصفه الآخر أزرق مع زوجته هافا وابنيه الصغيرين.

لطالما كان كاندي يشعر بالضجر في القرية، وكان يستمع إلى موسيقيين أجانب ويتابع نوادي كرة القدم الأوروبية. كان يتحدّث الانكليزية والفرنسية ويعلّم نفسه البرتغالية على أمل أن يعيش يوما ما في البرتغال. وقال لي أحد إخوته ويدعى جاكاريا: "كان أليو فتى محبوبا جدّا ولم يواجه أي مشكلة في حياته". وأضاف: "كان يعمل بجهد والناس يحترمونه".

كانت مزرعة كاندي تنتج الكسافا والمانجو والكاجو وهي منتوجات تمثل 90 في المائة من صادرات البلاد. ولكن بدأت طبيعة الطقس في التغيّر على الأرجح كنتيجة للتغيّرات المناخية.

وقال جاكاريا: "لم نعد نشعر بالبرد خلال موسم البرد، والحرارة تأتي في وقت أبكر ممّا ينبغي". لم يعد من الممكن الولوج إلى المزرعة إلا بزورق معظم أيام السنة، وأصبحت فترات الجفاف تستمرّ ضعف المدة التي كانت تستغرقها في الجيل السابق. كانت بقراته الأربع النحيلة تنتج كمية قليلة من الحليب. وارتفعت كذلك أعداد البعوض الذي ينشر أمراضا. عندما أصيب أحد أبناء كاندي بالملاريا، استغرقت رحلة نقله إلى المستشفى يوما وكاد أن يفقد حياته.

كاندي، وهو مسلم متديّن، كان قلقا من فشله أمام الله في إعالة أسرته. وأخبرني بوبو، أحد إخوة كاندي أن هذا الأخير: "كان يشعر بالذنب والحسد".

كان جاكاريا قد هاجر إلى إسبانيا، ودنباس، شقيق آخر، إلى إيطاليا، وكان كلاهما يرسلان أموالا إلى عائلتهما وصورا لمطاعم فاخرة. وقال لي سامبا، والد كاندي: "كلّ من يسافر إلى الخارج يجلب ثروة إلى عائلته".

كانت زوجة كاندي حاملا في شهرها الثامن، لكن عائلته شجّعته على السفر إلى أوروبا ووعدته برعاية أطفاله. وقالت والدته أميناتا: "ذهب كلّ أبناء جيله إلى الخارج ونجحوا.. فلم لا يذهب هو؟"؟.

صبيحة يوم 13 سبتمبر/ أيلول من سنة  2019، انطلق كاندي إلى أوروبا حاملا معه مصحفا وزوجين من السراويل وقميصا ومذكرات جلدية و600 أورو. وقال كاندي في ذلك الصباح لزوجته: "لا أعلم كم سيستغرق هذا الأمر من الوقت.. لكني أحبك وسوف أعود".

شق كاندي طريقه عبر وسط إفريقيا، متوقفا أو متخفيا في الحافلات والسيارات حتى وصل إلى أغاديس بالنيجر، التي كانت تسمى ذات مرة بوابة الصحراء. تاريخيا كانت حدود دول وسط إفريقيا مفتوحة كما هو الحال في الاتحاد الأوروبي. ولكن، في سنة 2016، ساعد مسؤولو الاتحاد الأوروبي، من خلال الصندوق الاستئماني، في وضع قانون جديد في النيجر، يسمى القانون 36، والذي حوّل اقتصاد عبور مزدهر إلى اقتصاد إجرامي، وموّلوا السلطات لمراقبة القانون الجديد بقوة، وبين عشيّة وضحاها، أمسى سائقو الحافلات والمرشدون، الذين نقلوا مهاجرين إلى الشمال لسنوات عديدة على طول طريق تصطفّ على جانبيه آبار المياه، مصنّفين كتجار بشر ويخضعون لعقوبات بالسجن لمدة 30 عاما. واضطرّ المهاجرون إلى التفكير في اتباع طرق أكثر خطورة.

وفي 2019، عبر كاندي بمعيّة ستّة أشخاص آخرين الصحراء، وكانوا ينامون أحيانا على الرمال على جانب الطريق. وقال كاندي لشقيقه جاكاريا عبر الهاتف: "الحرارة والغبار، الوضع فظيع هنا".

تسلّل عبر جزء من الجزائر خاضع لسيطرة قطاع الطرق. وقال لأسرته: "سوف يعتقلوني ويضربوني حتى يتمّ إطلاق سراحي.. هذا كلّ ما يوجد هناك".

وصل إلى المغرب في شهر جانفي/كانون الثاني من سنة 2020، وحاول دفع ثمن عبور قارب إلى إسبانيا وعلم أن السعر يبلغ 3000 أورو.

حثّ جاكاريا شقيقه على العودة إلا أن كاندي رفض هذه الفكرة قائلا: "لقد عملت بجدّ عندما كنت في أوروبا وأرسلت المال إلى العائلة. الآن حان دوري وعندما أصل إلى هناك يمكنك العودة إلى المزرعة والاستراحة وسأقوم أنا بالعمل".

وكان قد وصل إلى مسامعه أنه بإمكانه حجز رحلة إلى إيطاليا على متن قارب بسعر أرخص. في ديسمبر/كانون الأوّل الفارط، وصل إلى طرابلس واستأجر غرفة في قرقاش وهي حيّ فقير للمهاجرين. كان عمّه الأكبر ديمبا بالدي، وهو خيّاط سابق يبلغ من العمر 40 عاما، يقيم في ليبيا منذ سنوات متهرّبا من السلطات. وجد بالدي لكاندي عملا في طلاء المنازل وحثّه، دون أن ينجح في ذلك، على التخلّي عن خطّته لعبور البحر الأبيض المتوسط. وقال بالدي: "أخبرته أن ذلك هو طريق الموت".

مهاجرون سريون بمركز المباني يحاولون التغلب عن معاناتهم Credit: Ed Ou/The Outlaw Ocean Project

في شهر ماي/ أيار، سافرت إلى طرابلس للتحقيق في نظام احتجاز المهاجرين هناك. كنت قد أحدثت مؤخرا منظمة غير ربحية تسمى "ذي آوتلو أوشين بروجكت" (The Outlaw Ocean Project)، والتي تقدم تقارير حول حقوق الإنسان والقضايا البيئية في البحر، وقد أحضرت معي فريقا من الباحثين من بينهم مصوّر ومخرج.

في طرابلس، تنتشر المكاتب والفنادق والمباني السكنية والمدارس على الساحل، نصف مبنية ومهجورة.

كان هناك رجال مسلّحون يرتدون أزياء ويقفون عند كلّ تقاطع. لا يُسمح تقريبا بدخول أي صحفي غربي إلى ليبيا، ولكن بمساعدة مجموعة مساعدة دوليّة، حصلنا على تأشيرات دخول. بعد وصولنا بفترة قصيرة، أعطيت فريقي أجهزة تتبّع في حالة فقدان أي منهم وشجّعتهم على وضع نسخ من جوازات سفرهم داخل أحذيتهم. تمّ وضعنا في فندق بالقرب من وسط المدينة وكلّف فريق أمني متواضع بحمايتنا.

لم تكن ليبيا دائما بلدا غير مضيف للمهاجرين. اعتنق معمّر القذافي الوحدة الأفريقية في منتصف التسعينيات وشجّع تدفّق أفارقة جنوب الصحراء للعمل في حقول النفط بالبلاد. لكن بداية من الألفية الثالثة، بدأ القذافي في اتخاذ إجراءات صارمة ضدّ الهجرة. عام 2007، قام بإحداث أنظمة تأشيرة منفصلة للعرب والأفارقة. سنة 2008، وقّع "معاهدة صداقة" مع رئيس الوزراء الإيطالي آنذاك سيلفيو برلسكوني، والتي من بين أمور أخرى، ألزمته بمساعدة إيطاليا في الحدّ من الهجرة غير النظامية. وقد استخدم هذا الأمر أحيانا كورقة مساومة، حيث هدّد، في عام 2010، بأنه إذا لم يرسل مسؤولو الاتحاد الأوروبي ملايين الدولارات من أموال المساعدات فسوف "يحوّل أوروبا إلى منطقة سوداء".

بعد الإطاحة بالقذافي، انزلقت ليبيا في حالة من الفوضى. واليوم، تتنافس حكومتان على الشرعية، وهما حكومة الوحدة الوطنية المعترف بها من قبل الأمم المتحدة والحكومة المؤقتة المدعومة من روسيا ومن نصّبوا أنفسهم باسم الجيش الوطني الليبي.

تعتمد كلتا السلطتين على تحالفات متغيّرة ومريبة مع الميليشيات المسلّحة التي لها ولاءات قبلية وتدير أجزاء كبيرة من البلاد. وفي ظلّ هذا الاضطراب، أصبحت الشواطئ النائية في البلاد نقطة انطلاق شهيرة للمهاجرين.

تسمية خفر السواحل الليبي تجعل هذا الجهاز يبدو كمنظمة عسكرية رسمية. ولكن في الواقع ليس لديه قيادة موحّدة. ويتكون خفر السواحل من مجموعة متنوعة من الدوريات المحلية التي اتهمتها الأمم المتحدة منذ سنوات بأن لها صلات مع الميليشيات. (يطلق عليه العاملون في المجال الإنساني أحيانا "ما يسمى بخفر السواحل الليبي"). صرّح مينيتي خلال الأيام الأولى للمشروع قائلا : "عندما قلنا إنه يتعيّن علينا إعادة إطلاق خفر السواحل الليبي بدا الأمر وكأنه حلم يقظة".

ومنذ ذلك الحين،أنفق الصندوق الاستئماني لأفريقيا التابع للاتحاد الأوروبي عشرات الملايين من الدولارات لتحويل خفر السواحل إلى قوة هائلة بالوكالة. من حيث المبدإ، من المفترض أن يواجه خفر السواحل الخارج لحماية الخط الساحلي للبلاد من التهديدات الأجنبية. ولكن خفر السواحل الليبي يواجه الداخل لحماية أوروبا من المهاجرين.

سنة 2018، ساعدت الحكومة الإيطالية، بمباركة الاتحاد الأوروبي، خفر السواحل في الحصول على موافقة من الأمم المتحدة لتوسيع نطاق سلطته القضائية لما يقارب 100 ميل قبالة الساحل الليبي - بعيدا في المياه الدولية، وفي منتصف الطريق إلى الشواطئ الإيطالية.

قدّم له الاتحاد الأوروبي ستة زوارق سريعة من الألياف الزجاجية، وثلاثين سيارة تويوتا لاند كروزر، وعشر حاويات شحن لاستخدامها كمكاتب، وأجهزة راديو، وهواتف فضائية، وطوافات قابلة للنفخ، وخمسمائة زي موحد.ويتكفل الاتحاد الأوروبي بتكلفة مركز قيادة الوكالة ويوفر التدريب لضباطها. في احتفال في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، كشف مسؤولو الاتحاد الأوروبي وقادة ليبيون النقاب عن مركبين أبيضين مصنوعين من الفولاذ والألياف الزجاجية والكيفلار، تم بناؤهما في إيطاليا وتطويرهما في تونس بأموال من الصندوق الاستئماني.

وقال سفير الاتحاد الأوروبي الحالي في ليبيا خوسيه ساباديل: "تجديد هاتين السفينتين كان مثالا رئيسيا على التعاون البنّاء بين الاتحاد الأوروبي والبلد العضو في الاتحاد إيطاليا وليبيا".

ولعلّ المساعدة الأكثر قيمة تأتي من الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل التابعة للاتحاد الأوروبي "فرونتكس" التي تأسست سنة 2004 وكان هدفها الأولي حماية الحدود الشرقية لأوروبا. وفي 2015، أعلنت فرونتكس أنها ستقود "جهدا منهجيا للقبض على السفن المستخدمة لنقل المهاجرين عبر البحر وتدميرها". اليوم، تمتلك هذه الوكالة ميزانية تزيد عن نصف مليار أورو وخدمة نظامية خاصة بها، ويمكنها نشر السفن والطائرات والمركبات والأفراد في عمليات تمتدّ خارج حدود الاتحاد الأوروبي.

تحافظ الوكالة على رقابة شبه مستمرّة للبحر الأبيض المتوسط من خلال طائرات دون طيّار وطائرات دورية بحرية مستأجرة. عندما تكتشف سفينة مهاجرين، تقوم بإرسال الصور والموقع إلى الشركاء في المنطقة. ويقول متحدث باسم فرونتكس إن الوكالة "لم تشارك قطّ في أي تعاون مباشر مع السلطات الليبية". لكن تحقيقا أجراه تحالف من المنظمات الإخبارية الأوروبية، من بينها "لايت هاوس ريبورت" و"دير سبيغل" و"ليبيراسيون" و"أي إر دي"، وثق 20 حالة تم فيها اعتراض قوراب مهاجرين من قبل خفر السواحل مباشرة بعد مراقبتهم من قبل فرونتكس.

وجد التحقيق أدلة على أن فرونتكس ترسل أحيانا مواقع قوارب المهاجرين مباشرة إلى خفر السواحل. في تبادل للرسائل على "واتساب" في ماي/ أيار الفارط، على سبيل المثال، كتبت فرونتكس إلى شخص يعرّف نفسه بأنه "قائد خفر السواحل الليبي"، قائلة، "صباح الخير يا سيدي - لدينا قارب على غير هدى [الإحداثيات]. الناس يسكبون الماء. الرجاء الإقرار بتسلّم هذه الرسالة".

أرسل لي مسؤولون مؤخرًا نتائج طلب فتح السجلات، والتي تشير إلى أنه في الفترة الممتدة بين 1 و5 فيفري/ شباط، في الوقت الذي كان فيه كاندي في البحر تقريبا، تبادلت الوكالة سبعة وثلاثين رسالة بريد إلكتروني مع خفر السواحل الليبي. (رفضت فرونتكس الإفصاح عن محتوى رسائل البريد الإلكتروني، قائلة إنها ستشكل خطرا على "سلامة المهاجرين").

يقول مسؤول كبير في فرونتكس، طلب عدم ذكر اسمه خوفا من أن يتم الانتقام منه، أن الوكالة ترسل أيضا لقطات المراقبة إلى السلطات الإيطالية، التي يمكنها بعد ذلك إخطار خفر السواحل بنفسها. (لم يستجب خفر السواحل الإيطالي ومركز تنسيق الإنقاذ البحري في روما ، الوكالات التي تتولى المراقبة ، لطلبات التعليق).

يقول خبراء قانونيون إن هذه الإجراءات تنتهك القوانين الدولية ضد الإعادة القسرية، أو إعادة المهاجرين إلى أماكن غير آمنة. ويعتبر المسؤول بفرونتكس أنه حتى هذه الطريقة "غير المباشرة" لم تعزل الوكالة عن المسؤولية قائلا "أنت تقدم تلك المعلومات. أنت لا تنفذ الإجراء، لكن المعلومات هي التي تتسبّب في الإعادة القسرية ". وكان قد حث رؤساءه مرارا على التوقف عن المساعدة في جهود إعادة المهاجرين إلى ليبيا. ويقول المسؤول في هذا الصدد "لا يهم ما تقوله لهم. لم يكونوا مستعدين للفهم". (صرّح المتحدث باسم فرونتكس أنه "في أي عملية بحث وإنقاذ محتملة، تكون أولوية فرونتكس هي إنقاذ الأرواح").

بعد ذلك، تتسابق سفن خفر السواحل الليبي للقبض على المهاجرين قبل أن يقع إحضارهم إلى أوروبا. في بعض الأحيان، يطلق خفر السواحل النار على سفن الإنقاذ الإنسانية أو قوارب الهجرة. بحسب أرقام المنظمة الدولية للهجرة، اعترض خفر السواحل أكثر من 90 ألف مهاجر منذ جانفي/كانون الثاني 2016.

في 2017، استجاب قارب تابع لمنظمة "سي ووتش" الإنسانية لنداءات استغاثة من قارب مهاجرين غرق. عندما أنزلت "سي ووتش" زورقين مطاطين لتنفيذ عمليات الإنقاذ بأمان، وصل قارب لخفر السواحل الليبي يحمل اسم "رأس جدير" مما أدى إلى انقلاب الزورقين بسبب الموج الذي أحدثه. ثم أخرجوا المهاجرين من الماء قبل أن يتمكنوا من ركوب قارب المنظمة غير الحكومية وضربهم بمجرّد صعودهم على متن القارب.

قال يوهانس باير، رئيس مهمة "سي ووتش" في ذلك اليوم: "كان لدينا شعور أن خفر السواحل مهتم فقط بسحب أكبر عدد ممكن من الأشخاص إلى ليبيا دون الاهتمام بوجود أناس يغرقون".

قفز أحد المهاجرين من القارب وتشبّث بـقارب "رأس جدير" الذي أسرع بعيدا وجرّه عبر الماء. وقد توفي ما لا يقلّ عن عشرين شخصا أثناء عملية الاعتراض أحدهم طفل يبلغ من العمر سنتين. في فيفري/شباط الفارط، قامت سفينة أخرى تابعة لخفر السواحل الليبي بإطلاق النار وأغرقت زورق مهاجرين مما أدى إلى غرق خمسة أشخاص، بينما قام قادة السفينة بتصوير الحادثة بهواتفهم المحمولة.

يبدو أن خفر السواحل يعمل في ظلّ الإفلات من العقاب. في أكتوبر 2020، أضيف عبد الرحمن ميلاد، قائد وحدة خفر السواحل في الزاوية، إلى قائمة عقوبات مجلس الأمن الدولي واعتقلته السلطات الليبية بتهمة "التورّط المباشر في غرق قوارب المهاجرين باستخدام الأسلحة النارية" وحماية المهرّبين والتعاون معهم. سبق لميلاد أن حضر في اجتماعات مع السلطات الإيطالية في روما وصقلية سنة 2017 لطلب مزيد من الأموال من الصندوق الاستئماني.

ولكن تم إطلاق سراحه في شهر أفريل/نيسان الفارط بسبب نقص الأدلة. خفر السواحل، الذي رفض التعليق، كان قد أكد على نجاحه في الحدّ من الهجرة إلى أوروبا معتبرا أن السفن الإنسانية في البحر الأبيض المتوسط تعيق جهودهم لمكافحة الاتجار بالبشر. قال متحدث باسم خفر السواحل لوسائل إعلام إيطالية في عام 2017 "لماذا تعلن المنظمات غير الحكومية الحرب علينا؟ يجب أن يتعاونوا معنا بدلا من ذلك إذا كانوا يريدون فعلاً العمل لصالح المهاجرين". يقول المتحدث باسم الصندوق الاستئماني إن الاتحاد الأوروبي لا يقدم المال لخفر السواحل - وإنما التدريب والمعدات فقط - وأن هدفه هو "إنقاذ حياة أولئك الذين يقومون برحلات خطرة عن طريق البحر أو البر".

في شهر ماي/أيار من العام الحالي، أمضى مصور فيديو من فريقي، ويدعى إد أو، 40 يوما على متن سفينة أطباء بلا حدود كانت تحاول إنقاذ المهاجرين في البحر الأبيض المتوسط.

كانت المنظمة تحدّد زوارق المهاجرين بمساعدة جهاز الرادار وطيارين متطوّعين يحلّقون بالطائرات، ثم تقوم بمسابقة خفر السواحل الليبي إليهم.

في بعض الأحيان، كانوا يرون طائرة فرونتكس دون طيار - من طراز آي إي آي هيرون قادرة على العمل بشكل مستمرّ لمدّة تصل إلى 45 ساعة - تحلّق في السماء.

كانت السفينة حريصة على إجراء عمليات الإنقاذ بمجرّد عبور قوارب المهاجرين إلى المياه الدولية. ومع ذلك، تصل تهديدات خفر السواحل عبر جهاز الراديو. قال أحد الضباط : "ابتعدوا عن هدفنا". وهدّد آخر: "لا تدخلوا المياه الليبية وإلا فسأتعامل معكم وألجأ إلى إجراءات أخرى". في بعض الأحيان، تنجح عملية إنقاذ. ويتحدث عدد من المهاجرين السودانيين والدموع تغمر أعينهم عما رأوه في ليبيا. قال أحدهم إنه تعرّض للضرب والتعذيب على يد خفر السواحل عندما تمّ القبض عليه في رحلة سابقة. وشاهد آخر صديقين له وهما يقتلان بالرصاص في مركز احتجاز ليبي. أحدهم كان يرتدي قميصا مصنوعا منزليا كُتب عليه "تبا لليبيا".

في العاشرة مساء من الثالث من شهر فيفري/شباط من السنة الحالية 2021، اقتاد مهرّب كاندي وأكثر من 100 مهاجر آخرين إلى الشاطئ الليبي وجعلهم يصعدون على متن زورق مطاطي قابل للنفخ. بعض المهاجرين بدأوا في الغناء من شدة حماسهم لمغادرة ليبيا. بعد ساعتين من الإبحار دخل الزورق المياه الدولية. شعر كاندي، الذي كان يجلس في جانب من الزورق، بالأمل. وأخبر بقية الراكبين أنه بدأ يفكر في القيام بالرحلة مرّة أخرى قريبا مع زوجته وأطفاله.

كان المهرّب قد كلّف 3 مهاجرين بمسؤوليات مختلفة. حيث قام بتعيين شخص يتولى توجيه مسار الرحلة باستخدام بوصلة، إلى جانب "قبطان" يدير المحرّك ويتعامل مع الهاتف الذي يعمل بالأقمار الصناعية، وبمجرّد أن يكونوا بعيدين بما يكفي عن ليبيا، يجب عليه الاتصال بـ"آلارم فون"، وهي مجموعة إنسانية، ويطلب أن يتمّ إنقاذهم. أما "القائد" فيحافظ على النظام ويتأكد من عدم لمس أحد للقابس الذي إذا تمّ سحبه سيؤدي إلى غرق الزورق.

ولكن سرعان ما ساءت حال البحر مما أدى إلى تعكر حالة الجميع. وتحوّلت المياه المتراكمة عند أقدامهم إلى حساء من القيء والبراز وأغلفة الحلوى وفتات الرغيف الفرنسي.

حاول العديد من المهاجرين إنقاذ الزورق باستخدام زجاجات مياه بلاستيكية فارغة مقطوعة إلى نصفين. كما اندلع شجار، وهدّد شخص ما بقطع الزورق بسكين قبل أن يتم إخضاعه. يذكر محمد دافيد سوماهورو، الذي كان قد صادقه كاندي في الزورق، "بدأ الكلّ يدعو إلهه". ويضيف: "أحدهم كان يدعو الله وآخر يدعو يسوع، وهذا يدعو هذا وذلك ذاك. بدأت النساء في البكاء. وبمجرّد أن رأى الأطفال الناس في حالة من الذعر شرعوا في البكاء بدورهم".

هدأت المياه عند الفجر. وعندما اعتبر المهاجرون أنهم بعيدون بما يكفي عن ليبيا طلبوا المساعدة. أبلغهم عامل في "آلارم فون" أن هناك سفينة تجارية غير بعيدة، الأمر الذي دعاهم إلى الاحتفال. هتف المهاجرون "بوسا فري بوسا فري" مستخدمين كلمة فولانية تعني النصر. التفت كاندي إلى سوماهورو وعيناه تشعّان قائلا: "إن شاء الله سننجح في الوصول إلى إيطاليا!". ولكن عندما وصلت السفينة التجارية أعلمهم ربّانها أنه لا يمتللك قوارب نجاة وابتعد مسرعا.

في ذلك الوقت، كان زورق كاندي على بعد سبعين ميلا تقريبا من إيطاليا، بعيدا عن المياه الليبية ولكنه لا يزال ضمن النطاق القضائي الموسّع الذي ساعدت أوروبا في هندسته لخفر السواحل. حوالي الساعة الخامسة مساء من يوم 4 فيفري/ شباط ، لاحظ كاندي وبقية المهاجرين وجود طائرة فوقهم حلّقت لمدة 15 دقيقة قبل أن تبتعد. تظهر بيانات من "إي دي اس-بي اكسشانج"، وهي منظمة تتعقّب حركة الطيران، أن الطائرة المسماة "إيغل 1" كانت من طراز "بيتش كينغ إير 350"، وهي طائرة مراقبة استأجرتها فرونتكس. (رفضت الوكالة التعليق على الدور الذي لعبته في القبض على هؤلاء المهاجرين). بعد حوالي 3 ساعات، ظهرت سفينة في الأفق. قال سوماهورو: "كلما اقتربت السفينة كلما رأينا ذلك بوضوح- ورأينا الخطوط السوداء والخضراء للعلم. بدأ الجميع في البكاء ومسك رؤوسهم قائلين "تبا إنها ليبية" ".

كان القارب، وهو سفينة دورية فيتوريا بي 350 مصنوعة من الفولاذ والألياف الزجاجية والكيفلار، أحد المراكب التي كشف الاتحاد الأوروبي النقاب عنها في أكتوبر. قامت السفينة بالاصطدام بزورق المهاجرين ثلاث مرّات ثم تم أمرهم بتسلّق سلّم إلى السفينة. صرخ الضباط "تحركوا!". قام ضابط بضرب العديد من المهاجرين بعقب بندقيته. وقام آخر بجلدهم بواسطة حبل. أعيد المهاجرون إلى البرّ، وتمّ وضعهم في حافلات وشاحنات، واقتيادهم إلى مركز "المباني".

 

التحقيق من إنجاز الصحفي الاستقصائي الأمريكي M. Ian Urbina، ولفائدة منظمة

The Outlaw Ocean Project وهي منظمة صحفية غير هادفة للربح تنتج قصصًا استقصائية عالية التأثير حول الفوضى في البحر وتنوع الانتهاكات البيئية 

وحقوق الإنسان والعمل التي تحدث في الخارج في جميع أنحاء العالم.