بدأنا الأسبوع الماضي بالحدث الذي خلقه المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي عبر رأي قال فيه ان مليون ونصف المليون من الفئة العمرية بين 15و 25 سنة يوجدون خارج منظومة الدراسة والتكوين والشغل. والمفارقة، ان نفس الفئة العمرية، هي من سيخلق حدث القراءة في المعرض الدولي للكتاب والنشر نهاية نفس الأسبوع.

كانت مثيرة للدهشة تلك الصفوف البشرية الشابة المزدحمة بحثا عن توقيع رواية لكاتب سعودي شاب اسمه اسامة المسلم، ومثلما يحدث في الحضور الجماهيري لكبريات العروض الموسيقية أغمي على فتيات بفعل حماسة اللحظة والزحام الشديد، الكتاب والناشرون في معرض الرباط محتارون في أمرهم، لم يسبق لحفل توقيع كتاب ان حظي بكل هذا الإقبال، وممن؟ من أولئك الذين يفترض مجتمعنا ومؤسساته، انهم في تيه تغريهم عروض التفاهة وليس معارض الكتب.

وسط الزحام سقطت خطب "أزمة القراءة" وقد يسميها آخرون "أزمة مقروئية"، وهوى الكتاب من برجهم العاجي، كل اولئك الشباب حجوا إلى المعرض لأن فيه ما يشبع هواهم، شغفهم، فيه كاتب ورواية، هناك بساطة، خيال، شغف، خوف، صدمة، رعب، اللامتوقع، هناك الكتاب والكاتب في قرب نفسي ووجداني من القارئ ...

بدت المفاجأة مذهلة لدرجة أدخلت بعضنا في حالة إنكار. إنه الواقع الموجود وليس ذلك الذين نستخرجه من رؤوسنا نحن "الناضجون" و "الفاهمون لكل شيء" : مازالت القراءة ممكنة، وللكتاب عمر جديد يمكنه أن يحياه، لم يمت الخط ولن تنقرض الحروف تحت سطوة الصور، في شبابنا شهية قراءة خاملة تنتظر من ينقض عليها.

وكما حدث مع تلك الفئة العمرية العاطلة التي تحدث عنها المجلس الاقتصادي والاجتماعي، يغيب القرب والفهم والإنصات والقدرة على استغلال الفرص المتاحة، وتحل الأستاذية العمرية، تبخيس القارئ والمقروء، وفي طريق ذلك نتجاهل درس الممكن: هناك جيل قارئ، وهو يعيش هناك فوق البرزخ بين وقار الورق وخفة السوشل ميديا، وعلى الكاتب ان ينزل من برجه، ويقترب من الناس في لغتهم، انشغالاتهم، وعوالمهم الافتراضية الجديدة..

مرة اخرى ظهرت تلك الفجوة العميقة بيننا وبين الفئات العمرية الشابة في مجتمعنا، لقد ظهرت فاضحة في فعل القراءة، كما تبدت قبل ذلك في الموسيقى وباقي التعبيرات الفنية والرمزية، إننا لا ننصت لتلك المتغيرات من حولنا ولا للإمكانات المتاحة الكامنة فيها لفائدة شبابنا.

هؤلاء الذين نتجاهلهم هم الذين تقودهم رحلة التيه الذهني إلى البحث عن العزاء " الديني" بمختلف تعبيراته في "فراشات" اليوتيوب،، وهم السوق الذي يستثمر فيه باعة التخلف المنزه عن عبثهم كلام الله ودينه.

وآخر ما أتحفنا به هؤلاء تطبيق " الزواج الحلال" للشاب الياس الخريسي، تلك "الموضة الشرعية" الجديدة التي تزيد من تعميق فجواتنا الاجتماعية والثقافية والسلوكية. لقد تجاوز صاحب دعوة " لاتتزوج من الموظفة" مرحلة الإضحاك والسخرية، إلى استثمار الزواج والأسرة في بناء جيل جديد من " حمقى الله".

إنه لأمر مثير للدهشة مرة أخرى، بينما تنزع المملكة العربية السعودية عنها عباءة الوهابية الدينية، لتنتج جيلا سعوديا جديدا يفتح عينيه على الإبداع الأدبي لأسامة المسلم، نجني نحن مع الياس لخريسي سوء حصاد سنوات من القصف الوهابي لعقول شبابنا، وبينما ترفع القيود المجتمعية عن المرأة السعودية، نجد بين ظهرانينا من يبيعنا حبال تقييد نسائنا في غياهب الظلام.

الأمر جدي لما تقرأ إعلانا دعائيا يدعوك لأن تزوج أختك مقابل 100 أو 300 درهم، نحن هنا لسنا امام "اموال تترعرع" ولا ذلك شغلنا، خلف الإعلان توجد خلفية رجعية، فأختك "عيب قائم" لأنها لم تتزوج بعد، وهي " خطر محتمل" لأنها " قد تربط علاقة خارج الزواج"، هي "حيوان جنسي" على الأخ الذكر ان يتخلص منه في تطبيق " الزواج الحلال".

يفترض لنا إلياس ان يقود الذكر أخته إلى السوق "للخلاص من الفضيحة"، تسمح "النظرة الشرعية" بإلقاء نظرة على "البضاعة" قبل عقد "الصفقة الدينية" للعودة الى " جيل السلف الصالح"، ففي مجتمع "الزواج الحلال" و" رخصة السياقة"، المرأة لا يجب ان تشتغل موظفة، وان كانت كذلك فهي لا تصلح للزواج الى ان تثوب، وتقدم استقالتها ..

تمر هذه النظرة الدونية للمرأة دون ان تثير الضجيج، وفي صمت وهدوء تتم صناعة "أسر ايديولوجية" على المقاس، نوع من الكيتوهات الاجتماعية قيد التوسع على ضفاف الفقر، وسواحل هشاشة ذهنية وثقافية نتجت عن السقوط المدوي للكتاب والقراءة أمام عوالم شيوخ اليوتيوب..

على الأقل، أظهر لنا ذلك الكاتب الشاب وجموعه في معرض الكتاب أن هناك أملا في تدارك هذا المد الطافح بالرجعية، هناك امل في استعادة الشباب الى رحاب الكتاب، الى هناك حيث يهزمون "شيوخ الظلام"، وهناك امل اكبر في ان يبسط الكتاب سحره بركوب غواية اليوتيوب والتيكنوك..