استيقظت على خبر استشهاد ضابط الجيش السوداني، محمد صديق، أحد أيقونات ثورة «تسقط بس»، على يد مليشيا الدعم السريع في محيط مصفاة البترول شمال الخرطوم. لم يعد ما يقال عن حرب دخلت عامها الثاني وما يفوق ثلثي الشعب أصبحوا لاجئين في دول الجوار. نظرت إلى المرآة متحسسا لحيتي قبل أن أتدحرج إلى محطة القطار، لم أعد أنظر إلى مقدمة الرأس منذ مدة طويلة بعد أن أصابها التصحر وأراحتني من فاتورة «شامبو» الشعر، بدأ بعض الاحمرار على بياض عيني اليسرى لم أعره اهتماما واتجهت صوب الأفعى الحديدية التي تقلني إلى الدار البيضاء، غرقت في صفحات الجريدة كالمعتاد ولم أهتم إن كانت العين قد فقدت «حورها» كما قال الشاعر الفذ جرير:

إن العيون التي في طرفها حور... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا

في نهاية الدوام، وبعد أن اطمأننت أن عدد الغد قد بدأت طباعته، وددت أن أتأكد أن العين على ما يرام بعد أن تكرمت علي بالعمل دون منغصات، وجدتها مثل شمس تسقط في البحر وتترك وراءها ذيولا حمراء على حور العين كاملا، هنا كان لزاما على أن أتخذ قرار الذهاب إلى الطبيب، وقد كان.

دخلت عيادة بأحد أحياء الرباط ووجدت العديد ممن أعيتهم أعينهم ينتظرون دورهم في مقابلة طبيبة العيون. وضع نصف المرضى شريطا على إحدى العينين ينهشهم الفراغ والملل، الإنسان لا يملك رفاهية انتقاء أمراضه على كل حال، جلست إلى جوار مسن برفقته ابنته، كان يهمس لها في أذنها حتى فرت من فمها ضحكة عذبة، رجته أن يحافظ على الشريط على عينه حسب طلب الطبيبة حتى ترى ماذا أصابها، تخلى الرجل عن همسه وقال لابنته: «دابا العين وغدا البوطا وقيلا غادي نوليو ندوشو مرة في الشهر»، شدت ابنته على يده بعد نضوب آخر ضحكة تمددت في أوردتها، ضحك كل من في قاعة الانتظار بعد أن كانت تغلف بعضهم الوحدة بفقاعة من الأفكار المتضخمة، والبعض الآخر ملفوفا في صمته، فيما كنت أنا أعالج أفكارا ذاهلة عن حرب وجد «شعب السمر» نفسه في أتونها ولم يستشره أحد في خوضها بين «أصدقاء الأمس».

ظل الرجل يتحفنا بتجاربه الثرة في الحياة ويملأ أفواه الناس بالكلام، فاضت حكاياته كما يفيض الماء وينضح أعلى الشلال، تحدث عن علامات الساعة وحصرها في غلاء الأسعار وكيف أن «شريحة تاونات» أصبحت تتدلل عليهم وارتفع ثمنها حتى وصل 90 درهما بعد أن كانت لا تتعدى 25 درهما في زمن مضى. ستينية تجلس أمامه ابتسمت ابتسامة كبيرة طافرة بالشحوب وردت عليه: «واش باقي كتعقل على عشرين درهم راه الدري ما بقاش تيقبل بيها». استأنف يحكي بارتعاش لاهب وناهب عن أيامهم وقال إن تلك العشرين درهما «اللي كنحقروها دابا» كانت ثمن أول «عراضة» لرفيقة دربه «خدوج»، ابتسمت ابنته بكامل بذخ أنوثتها وضغطت على يده عله يوقف سيل حكايته المتدفق والذي خلق لنا جوا مرحا بعيدا عن وثائقيات «ناشيونال جيوغرافيك» وسمكة التونة العنيدة وكلاب البرية المتوحشة التي تأكل الظباء وهي لا زالت تتنفس، ثم عرج إلى أسعار كبش العيد هذا العام بعد أن أخبره نديمه «موحا» أن «الصردي» «دافع كبير» ووصل سعر الأملح منه خمسة آلاف درهم عدا ونقدا. قطعت سيل حكاياته كاتبة الطبيب، التي ما إن رآها الجميع حتى تدلت عيونهم من المحاجر فنادت على اسمه: «سي العربي»، قام وسحب رجليه بتثاقل من يقودونه إلى مذبح متكئا على كتف ابنته، ذهب وتركنا غارقين في صمتنا.

إنا لله.. أمتع الحكايا هي ما يجود به المسنون عن تجاربهم وعراكهم مع حياة صارت لاهثة أكثر مما يجب.. شفى الله الجميع.