تختزل الفتوى في ثقافتنا الإسلامية الورقة الأخيرة لترجيح كفة على حساب كفة،  كلما وقف جوهر الخلاف في تماس مع مفهوم المقدس.

 وبغض النظر عن تفاوت الفهوم في رسم حدود ملامح المقدس / الثابت، ومدى قابليته للتقاطع مع الفهم البشري/  المتغير، يبقى مفتاح الاجتهاد الضمانة الحاملة للتوجيه النبوي المشجع على طرق باب البحث ، فقد جاء في الصحيحين قوله عليه الصلاة والسلام، "إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر".

إلا أن حتمية حيازة الأجر مهما كان مآل الاجتهاد قد تكون سببا في توهم البعض أن الباب مشرع لكل من هب ودب للخوض في الفتوى، دون حيازة ما يلزم من رسوخ في العلوم الشرعية، وعلوم اللغة، وفقه النوازل، وما يكفي من النباهة والدراية بمسار التغيرات المجتمعية ... وهذا ما جعل العالم الإسلامي  في فترات متفرقة ما بين الماضي والحاضر، يغرق في فوضى الفتاوى التي استسهل أصحابها تداعياتها، ما جعل منها فتاوى أهواء تستباح بها الأعراض، وتسفك بها الدماء، وتتمزق بسببها لحمة دول، وتترسخ بسببها قناعات صدامية رافضة للآخر المختلف سياسيا وثقافيا وعقديا ...

ولحسن الحظ، المغرب  في منأى عن التداعيات الثقيلة لهذه الفوضى، وإن كانت الثورة التكنولوجية قد تسمح لحد ما بوصول شرر بعض الفتاوى في نطاق ضيق، إلا أن سهر مؤسسة إمارة المؤمنين على تأطير الحقل الديني، سمح بحصر الفتوى المعتمدة رسميا في إطار ضيق، وتحديدا الهيئة العلمية المكلفة بالإفتاء، التي أحدثت لدى المجلس العلمي الأعلى الذي يترأسه أمير المؤمنين، الملك محمد السادس سنة 2004، حيث تختص وحدها دون غيرها بإصدار الفتاوى المرتبطة ببيان حكم الشريعة الإسلامية في القضايا ذات الصبغة العامة.

واليوم يبرز دور الهيئة المكلفة بالإفتاء مجددا، بعد أن أحال الملك بعض مقترحات الهيئة المكلفة بمراجعة مدونة الأسرة، على المجلس العلمي الأعلى، قصد رفع فتوى لجلالته بشأن بعض المسائل المرتبطة بنصوص دينية، مع تجديد التأكيد على "اعتماد فضائل الاعتدال والاجتهاد المنفتح البناء، في ظل الضابط الذي طالما عبر عنه جلالته، من عدم السماح بتحليل حرام ولا بتحريم حلال" وفق ما جاء في بلاغ للديوان الملكي.

وبغض النظر عن مضمون "فتوى المدونة المنتظرة"، التي رافقها نقاش وصل حد تهديد البعض بضرب الرقاب، وإسالة الدماء، وإشهار ورقة النزول للشارع خوفا من تحريم ما أحل الله، وتحليل ما حرم الله، وغيرها من المزايدات أو القراءات المبنية على التوجس،  يبقى حضور مؤسسة إمارة المؤمنين في تدبير الخلافات المجتمعية، سدا منيعا أمام أي محاولة للتطاول على مهمة الفتوى التي جعلها حكرا على أهلها ضمن نطاق جماعي يقي من انزلاقات الاجتهادات الفردية، مع الانفتاح على أهل الاختصاصات المختلفة عند الاقتضاء.

إن تشبع علماء المملكة بالفكر المقاصدي عند المالكية، وتنقلهم ببراعة بين ثنائية الانصهار في بيئتهم مع الانفتاح على باقي الاجتهادات، تشهد عليه مؤلفات القرون الماضية التي توثق لفتاوى أهل سوس، وفتاوى أهل فاس، وأهل مراكش ... حيث كانت الفتاوى الخاصة بالنساء والأسرة حاضرة بشكل يثير علامات الاستفهام حول سبب تعثر هذا النوع من النقاشات المرتبطة بفتاوى الكد والسعاية، وتعليم البنات، والإرث... وغيرها من المسائل التي من المفترض أن تتجاوز اليوم لنقاشات أعمق وأرحب، دون خوف أو توجس من الاختلاف، ما دامت الأمور تتم في إطار مؤسساتي قادر على رفع سقف التوقعات، وخفض مستوى التوجسات بين مختلف مكونات المجتمع المغربي المتعددة عبر قناة الفتاوى المتشبعة بروح العصر.