لم يحز الفقهاء في نهاية المطاف، وكما قد يبدو ذلك من قراءة ظاهرية للإحالة الملكية على المجلس العلمي الأعلى، سلطة الحسم في مشروع تعديل مدونة الأسرة برمته.

يمكن مناقشة حضور وسلوك العلماء الدينيين في مسار النقاش العمومي حول الأسرة المغربية، لكن ذلك مجاله السياسة وليس فضاء المجلس العلمي الأعلى، المجلس ليس ممثلا لعلماء الدين، ودور هؤلاء، كطرف في الاختلاف والتعددية، انتهى عند عتبة اختتام المشاورات وجلسات الاستماع العمومي ورفع تقرير اللجنة إلى الملك.

أعضاء المجلس العلمي، وتحديدا أعضاء هيئة الإفتاء في حالتنا هذه، هم عاملون في مؤسسة إمارة المؤمنين وليسوا فقهاء تلفزيون أو منصات يوتيوب، وهم ملتزمون بالقواعد التي يقتضيها المنصب العمومي من تجرد وحياد وتحفظ، ولا يتخذون قرارهم إلا بالإجماع وليس التصويت، إنهم مختلفون تماما عما يمكن أن يكونوا عليه خارج واجبات التكليف الملكي بالاشتغال في خدمة أمير المؤمنين.

في نظامنا الدستوري، ولما يحيل الملك على المجلس العلمي الأعلى لطلب الفتوى، فإنه لا يحيل على سلطة علماء الدين، بل يحيل على حقل الملك أمير المؤمنين، ويضع جسر عبور بين الملك رئيس الدولة والملك أمير المؤمنين، بين مؤسسات الدولة ومؤسسة إمارة المؤمنين.

لقد تم تفكيك الفصل 19 في دستور 1996 والذي كان يتيح للملك بصفته أميرا للمؤمنين وضع تشريعات تبتدئ من السياسة العامة إلى تحديد السومة الكرائية للشقق على حد تعبير الدكتور محمد أشركي، وجاء الملك وأمير المؤمنين منفصلين متجاورين في الفصلين 42 و43 من دستور 2011.

يصل بنا ذلك إلى نتيجة حتمية: لم تكن الإحالة الملكية على المجلس العلمي الأعلى إحالة "استثنائية" أو "تحت الضرورة" لإنصاف "الفقهاء" أو إعطائهم سلطة الحسم. إنها من جهة إجراء تشريعي استثنائي إلزامي في مضمار القواعد العادية للتشريع، حين تتقاطع الاختصاصات الحصرية للبرلمان مع سلطات رئيس الدولة وصلاحيات أمير المؤمنين.

ومن جهة ثانية بدت تلك الإحالة واردة منتظرة بوضوح منذ شتنبر 2023 في الرسالة الملكية إلى رئيس الحكومة من خلال تلك الإحالات على الدين الإسلامي/الحلال/ الحرام/ الإجتهاد...

في الواقع لم ينتصر الفقيه، بل انتصر التركيب الدستوري الخلاق بين الملك رئيس الدولة وبين الملك أمير المؤمنين، بين مؤسسات الديمقراطية المنتخبة ومؤسسة إمارة المؤمنين، بين الدين والسياسة، لننظر كي ينطلق المسار التشريعي من أمير المؤمنين إلى رئيس الحكومة، ثم من الاستشارة العمومية إلى أمير المؤمنين، ومنه إلى المجلس العلمي الأعلى ثم أمير المؤمنين فالحكومة، على أن يكون البرلمان المنتخب صاحب سلطة المصادقة في نهاية المطاف.

لقد تطلب هذا التركيب الخاص بفرادة التجربة المغربية في تدبير التوتر الكلاسيكي بين المجالين المدني والمقدس مسارا أطول من عمر احتجاجات بعض علماء الدين الغاضبين، فهو ثمرة تراكم بدأ مع أحداث 16 ماي الإرهابية سنة 2003، وبلغ ذروته مع ربيع الديمقراطية في نسخته المغربية سنة 2011.

نصل إلى نقطة جوهرية، في المسار الوطني الشاق ضد التطرف والغلو تم إنضاج نموذج إسلام مغربي معتدل، ومن البديهي أن منطق هذا التطور يفرض أن تقرأ الإحالة الملكية على المجلس العلمي الأعلى على أنها دعوة إلى الاجتهاد في ملاءمة النص الديني مع تعقيدات واقع الأسرة المغربية، وتوجيه نحو الإفتاء بالانفتاح على العصر، وليست مجرد دعوة للجمود في تحديد الحلال من الحرام.