ما وقع في فرنسا، الأحد الأخير، دليل إضافي على أن الناس لم تهجر السياسة، ولم تعد تذهب إليها فقط لكي تمنح أصواتها لليمين المتطرف، ذي المرجعية الدينية. 

لا، ذهب جزء كبير من الشعب الفرنسي لكي ينقذ بلاده، أو هذا ما يعتقد على الأقل، من دخول مجهول يرعبه. 

وعاد جزء كبير من الشعب الفرنسي إلى صناديق الاقتراع، وعالم السياسة، بعد أن استوعب أن صوته سيكون حاسما في تغيير المسار الانتخابي كله، أو في تغيير جزء كبير وهام منه. 

وكذاك كان: الحزب الذي حل أولا في الانتخابات الأوروبية، وفي الدور الأول من الانتخابات التشريعية، أي حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف، حل في المرتبة الثالثة في الدور الثاني الأحد الماضي، بسبب هبة جمهورية حقيقية قادتها أحزاب اليسار الفرنسي مجتمعة، وتمكنت من خلالها من تحقيق الانتصار في هذا الاقتراع الذي وصفه الجميع بالتاريخي. 

بعيدا عن فرنسا، وهي بلد بثقافة سياسية عالية وقديمة على كل حال، ضبطتني أسأل نفسي إن كان ممكنا في يوم من الأيام أن نرى أحزاب اليسار في بلد عربي من البلدان تتحالف بينها لكي تقطع الطريق على اكتساح اليمين المتطرف الديني (الإسلاميين) لدينا للانتخابات. 

تذكرت أن المقارنة لا تستقيم، إذ أين هي هاته الأحزاب اليسارية؟ وأين هي الانتخابات المبنية على صراع الأفكار والبرامج؟ وأين هو الناخب الذي سيفهم خطورة التصويت على التطرف فيتجند لمقاومته؟ وأين هو الإعلام الذي سيتابع ويغطي بكل هذا الزخم المهني الكبير، يسارا ويمينا، هذه الانتخابات، وسيفتح بلاتوهات القنوات المختلفة لساعات وساعات من التناظر السياسي المفيد والساخن والمغري بالمشاهدة؟ 

لعنت الشيطان الرجيم فورا، وتذكرت أن يساريي العالم العربي يعوضون اليوم عنوستهم الجماهيرية بالارتماء في أحضان متطرفي الاتجار بالدين، لكي يظهروا رفقتهم في المظاهرات والمسيرات وكأن عددا كبيرا من المواطنين لازال يصدقهم، فعدت إلى فرنسا، وإلى متابعة هذا الفصل المثير فيها الذي لا نعرف علام سيرسو في نهاية المطاف. 

ذلك أن فوز ميلونشون ومن معه ليسا نهاية الحكاية، 

بالعكس هي تبدأ الآن بالكاد، وماكرون يجب أن يعثر على رئيس وزراء قادر على لم شمل كل هذه النتيجة المتقاربة التي أفرزها هذا الاقتراع، إذ إن ثلاث كتل رئيسية ستتقاسم الجمعية الوطنية، أو البرلمان الفرنسي من الآن فصاعدا، ويجب العثور على حل للوصول إلى أغلبية حكومية قادرة على الحكم حقا. 

باختصار، هذا بلد أوروبي يقاوم هاته الرغبة الجنونية لدى جزء من شعبه في تجريب التطرف اليميني حلا لكل المشاكل، وهذا بلد يتذكر أن آخر حكومة يمينية متطرفة في تاريخه هي حكومة «فيشي» الشهيرة التي تحالفت مع النازية وارتكبت رفقتها جرائم حرب لم تنسها الذاكرة العالمية، وهو اليوم يرفض بكل قواه أن يعيد كتابة هذا الرعب فقط لأنه يخشى سحنات المهاجرين وثقافاتهم، ويعتقدهم سبب كل سوء هو فيه اليوم.