ليس كل مصرح في محتوى رقمي هو صادق في ادعاءاته؟ وقد أثبتت لك تجاربك الشخصية كم من مصرح لاك بفمك الأراجيف والأباطيل، وإن كنت قد كسبت على ظهره العديد من المشاهدات التي تكال بالمال في بنك اليوتيوب.

وليس كل شريط متداول في مواقع التواصل الاجتماعي يصلح للاستغلال والتحوير والترويج في سوق المزايدات الافتراضية؟ ولك في رصيدك الرقمي ثلة من القضايا التي أدليت فيها بدلو الإسهاب، فثبت أنها ليست كما حيكت من قبل أصحابها، أو كما جاء في رواية من تراموا عليها بنية مضاعفة المشاهدات وتعزيز الشعبية الافتراضية في المواقع التواصلية.

ولكن السقطة الكبرى هي "استغلال" قضية القاضية المتقاعدة ، التي ركنت لمواقع التواصل الاجتماعي علها تؤثر في استقلالية القضاء، بعيدا عن ردهات المحاكم والدفوع الشكلية والمذكرات الكتابية والخبرات التقنية وغيرها مما درج عليه القضاء المدني في قضايا المنازعات العقارية.

والمثير أن الصحفي اليوتوبرز لم يتبن قضية القاضية المتقاعدة افتراضيا فقط، دون الاطلاع على الملف القضائي والاستماع لباقي خصوم الدعوى، وهو الذي كان قاب قوسين أو أدني من ولوج سلك المحاماة لولا النقطتين اليتيمتين التي حصل عليهما في امتحانات مهنة النبلاء كما يسميها أصحاب البذلة السوداء.

بل إن زميلنا، الذي امتهن اليوتيوب بعد بوار مسعاه الأصلي، ارتكب مجازر قضائية وقانونية من حيث لا يحتسب ولا يدري! فقد طالب بتغيير مبدأ دستوري وهو سواسية الجميع أمام القانون.

ففي حمأة حماسة الإلقاء والخطابة، طالب الصحفي اليوتيوبرز بأن يستحضر القضاة صفة زميلتهم المتقاعدة في الدعوى بقوله "لماذا لم تشفع لها صفتها كقاضية في هذه القضية"! أهكذا يكون التقاضي أمام العدالة؟ أليس هذا خرق لمبدأ الحياد والتجرد والمساواة أمام القضاء؟

أكثر من ذلك، لماذا لم يسأل الصحفي اليوتيوبرز عن السبب الذي دفع القاضية المتقاعدة للمرور خارج خط تماس المساطر القضائية، والتشكي أمام الرأي العام والمسؤولين القضائيين؟ أليس هذا تهديد للأمن القضائي وضرب لاستقلالية القضاة؟ ولماذا لم يستفسر عن مآل الدعوى في جميع مراحل التقاضي التي بث فيها العديد من القضاة والمستشارين من عدة هيئات قضائية مختلفة؟ فهل كل القضاة متواطؤون؟ وهل كلهم عاجزون عن إنصاف زميلتهم السابقة؟

للأسف، مثل هذه الأسئلة لن تجد لها صدى في محتويات اليوتيوبرز، لأنها استفسارات تشكيكية قد تبطل مفعول "التوجيه المعنوي"، الذي يراهن عليه البعض للرفع من المشاهدات في مواقع التواصل الاجتماعي، وبالتالي اعتراض الهدف المنشود وهو إحداث "الانفعال العرضي" الذي يجعل الناس يسخطون على الدولة ونظامها القضائي.

ولعل هذا هو السبب الذي جعل الصحفي اليوتيوبرز يستهل توطئته لفيديو القاضية المتقاعدة بحالة من "الهذيان الانفعالي" عند شخص غير معلوم قال له بالحرف "إذا كان صحيح ما قالته هذه القاضية فإنني سأترك البلد"!

فالوطنية والانتماء للوطن صارا مثل غبش السراب يمكن استبدالهما بشريط فيديو لسيدة تحاجج عن قضيتها بعيدا عن المحاكم والقضاء، وتدلي بروايتها الشخصية بعيدا عن مواقف باقي أطراف الدعوى. ولكم هو مؤسف أن يصير استبدال الوطن لعبة لاعب في خوارزميات الفايسبوك ومشاهدات اليوتيوب.

فكثيرة هي الزلات القانونية التي ارتكبها الصحفي اليوتيوبرز، وهو يتناول قضية مدنية في فرعها العقاري، تضم العديد من الأطراف، لكنه اختار الانتصار لمن فضل الركون للشبكات التواصلية عوض المساطر القضائية.

وهنا نتساءل مع الصحفي اليوتيوبرز كيف يمكن التواصل في قضية عقارية تضم العديد من الأطراف، وهو الذي طالب بسد فراغ الصمت بالتواصل في هذه القضية؟ ومن الذي يمكنه التواصل في هذه القضية؟ هل المجلس الأعلى للسلطة القضائية؟ أم المحكمة الابتدائية التي أصدرت الحكم الابتدائي؟ أم محكمة الاستئناف التي أصدرت مقررها الاستئنافي؟ أم محكمة النقض؟ أم الخبير الذي أنجز الخبرة العقارية؟….

فمثل هذه القضايا تعالج أمام القضاء، بموجب مساطر قانونية حددها قانون المسطرة المدنية، ومن يتظلم من الحكم الابتدائي يمكنه سلك مساطر الطعن، وهكذا دواليك في جميع مراحل التقاضي، وليس بالركون لمساطر تصريف المواقف الذاتية في مواقع التواصل الاجتماعي.

فليس هكذا تورد الإبل يا حميد المهداوي.