العادات ليست اختيارا شخصيا كما يوهمنا خبراء التنمية وتطوير الذات، بل هي إملاءات تفرضها الطبيعة التي غدت منذ عقود وفي غفلة وتغافل منا مزاجية بتغيراتها المناخية، مع كل ما تحمله هذه المزاجية المتطرفة من تداعيات قاسية تأكل الأخضر واليابس في حقول الاقتصاد والاجتماع والثقافة.

وإلا كيف لك أن تعاند الطبيعة وتفرض عادتك في الحصول على حصتك الموسمية من التين الشوكي، أو الهندية التي كان سعرها غير بعيد يقدر بسنتيمات قبل أن يقفز إلى درهم ودرهمين، وبعدها وبدون مقدمات تتسلل فاكهة الفقراء إلى خانة التمنع ليصبح ثمنها 5 دراهم.

بلغة الأرقام، الأمر لم يعد متاحا .. كيف لعاملة بسيطة تسير كل صباح بخطى متثاقلة نحو عملها، أن تدفع 10 أو 15 درهما، للحصول على ما كان يكلفها بالأمس درهمين !? وكيف لعامل بسيط أو طالب معاشو ينتظر رزقه في حر الصيف، أن يسكت جوعه كما الماضي ببضع هنديات يتناولهن مع قطعة خبز بعد أن أصبحت هذه الوجبة تعادل نصف ما سيجنيه في يومه بحثا عن "طرف الخبز". !!

وكيف لرب أسرة أن يتقاسم بسخاء طعم هذه الفاكهة مساء وهو يلج المنزل بعد يوم عمل طويل وشاق وبيده ذلك الكيس البلاستيكي الشفاف المليء بحصة عائلية من التين، بعد أن أصبح سعر هذه الحصة يعادل سعر كيلو غرام من الدجاج، وكيف لمن اعتاد جني مكاسب موسمية أن يغامر باقتناء صندوق محتكر بأسواق الجملة، يتجاوز ثمنه 500 درهما مع هامش ربح لا يتجاوز دراهم معدودات، بعد أن خف تحلق عشاق هذه الفاكهة حول عرباتها.

ومن يدري، قد ترتفع أسهم الهندية الموسم القادم، بعد أن تبتلع الحشرة القرمزية ما بقي، وتشح السماء عن عطائها، لتغدو أكثر ندرة و يصبح تسويقها حكرا على مؤثرات مواقع التواصل في علبة أنيقة تحمل حبة أو حبتين.

وقبل التين، كان هناك زيت زيتون يجد طريقه بسخاء نحو صحون موائد المغاربة، إلا أن القفزة الصاروخية للأسعار من 50 درهما نحو 100 درهم وما يزيد، ينذر بخصومة قريبة مع هذا المنتوج السائل بعد تنبيه الفلاحين لموت عدد كبير من أشجار الزيتون بسبب التغيرات المناخية التي رمت بظلالها على هذه المادة عالميا، حيث أشارت مجلة " ذي إيكونومست" أن أسعار زيت الزيتون عالميا ارتفعت بنسبة 117 في المائة، وسط تقديرات بتوالي اللحظات الصعبة المرتبطة بالتغيرات المناخية، وانخفاض الإنتاج، وزيادة الطلب والتضخم.

وارتباطا بانخفاض الإنتاج، دق عدد من الفلاحين ناقوس الخطر بعد الانحسار الكبير الذي تشهده أشجار الزيتون بعدد من المناطق المعروفة بإنتاجها لهذه المادة، حيث لم يتمكن إقليم شيشاوة على السبيل المثال، من تجاوز عشر الكمية المنتجة عادة سنة 2023، بينما يعيش إقليم السراغنة على وقع استنزاف وتخريب طال آلاف أشجار الزيتون التي كلفت خزينة الدولة ملايير الدراهم، قبل أن تصبح عرضة للبيع بمبلغ لا يتجاوز 0.30 درهم  للكيلوغرام الواحد لتجار الخشب وأصحاب الحمامات الذين يساهمون في تسريع وتيرة استنزاف هذه الثروة الطبيعية، دون اعتبار للتداعيات البيئية والاجتماعية لهذه الخطوات غير المسؤولة.

هي دوامة معقدة تشير التقارير الدولية أنها مرشحة لإفراز حصيلة ثقيلة من الخسائر بعد توالي سنوات الحرارة غير المعتادة التي يعيشها كوكب الأرض، ما يجعلنا في حالة استعداد لفقد المزيد من الموارد، فبعد أن انفضت جموع عشاق الهندية عن عرباتها، بعد أن اختارت سلم الارتقاء الاجتماعي مسقطة عنها لقب "فاكهة الفقراء"، وبعد أن غاب سخاء شجرة الزيتون الذي غابت معه عادت تخزين عشرات لترات الزيت داخل المنازل، لن نسائل القطاعات الوصية عن خططها لمواجهة الأزمة، لأننا عهدنا أنها تواجهنا بخططها في الصمت والإحالة على الوسطاء والمضاربين، لذلك لا بأس أن نواجه الخصاص بسلاح الاستمتاع بما بقي من غلة.

فمن يدري، قد يأتي غد بلا تين ولا زيت زيتون، وقد تمعن الطبيعة في حظر ثرواتها عنا نحن الجاحدون بنعمها، العابثون بأنظمتها رغم عقود من تحذيرات العلماء والنشطاء الذين صورتهم لنا السينما كمجموعة من غريبي الأطوار،والبلهاء المنفصلين عن واقعهم .. وكأن لنا واقعا غير هذه الأرض التي تقاسمت معنا بسخاء ولآلاف السنين ثروات سطحها وجوفها.