شكل احداث هيئة الانصاف والمصالحة أحد أبرز المحطات الفاصلة في تاريخنا الراهن"، و"تجربة نموذجية وفريدة ورائدة في سياقاتها ومقارباتها ومقوماتها ودلالاتها، وفي الأثر الذي خلفته" انطلاقا من إلتقائية عفوية استثنائية ضمن تجارب العدالة الانتقالية المقارنة، لإرادة دولة ومجتمع", كما أكدت ذلك أمنة بوعياش  رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان سنة 2024 بمناسبة الاحتفال بالذكرى 20 لإحداثها.

احداث الهيئة اعتبر محطة بارزة في مسار إحقاق الإنصاف والعدالة والإصلاحات المهيكلة تم تأسيسها في عهد جلالة الملك محمد السادس, خاصة أنها أصدرت توصيات كان لها الأثر في مختلف الاصلاحات السياسية والدستورية في العهد الجديد.

هي تجربة  فريدة أطلقتها المملكة المغربية منذ سنوات, وتتعلق بطي صفحة الماضي الأليم أو ماسمي ب "سنوات الجمروالرصاص" في اطار العدالة الانتقالية, وانطلقت منذ التسعينيات باحداث المجلس الاستشاري لحقوق الانسان وبعده المجلس الوطني لحقوق الانسان, إضافة الى العمل المنجز من طرف هيئة الانصاف والمصالحة.

بدأ المسار بإنشاء المجلس الاستشاري لحقــوق الإنسان في13 شوال 1410 هـ (8 ماي 1990م, وقال الملك الراحل الحسن الثاني في خطاب له بالمناسبة " قررنا أن تكون جلستنا هذه جلسة مخصصة لا لخلق دولة القانون ولكن لاستكمال دولة القانون، الدولة التي تريد قبل كل شيء أن تضع حدا للقيل والقال فيما يخص حقوق الإنسان كي ننهي هذه المسألة.".وخاطب أعضاء  المجلس بقوله "أناشدكم الله بنزاهتكمووطنيتكم أن تعينوني على إرجاع الحق لمن اغتصب منه، وأن تعينوني على أن نرفع جميعا هذا البلد إلى مستوى الدول المتحضرة، دول القانون".

وقد عالج المجلس الاستشاري عددا من الملفات, وأسس لتجربة متميزة في على المستوى المغاربي والافريقي , وهو ما أشار اليه الملك محمد السادس في خطاب له عند تعيين وتنصيب الأعضاء الجدد في المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان ووالي ديوان المظالم بالقصر الملكي بالرباط يوم الثلاثاء 5 شوال 1423هـ ( 10 دجنبر 2002م) بتأكيده أن "مابلغناه اليوم، يشكل رصيدا حضاريا، يؤسس لتجربة مغربية متميزة في النهوض بحقوق الإنسان، سواء على مستوى الطريقة التي تمت بها تسوية قضية المعتقلين السياسيين والمنفيين، أو على صعيد ما اتخذ من تدابير وقائية لتحصين بلادنا من أي انتهاك لحقوق الإنسان، فضلا عن إدماج التربية على هذه الحقوق في منظومة التعليم والتكوين". مضيفا أن "هذا ما مكن المغرب من أن يصبح قدوة في مجال معالجة قضايا حقوق الإنسان، في جانبها الأكثر حساسية وصعوبة وتعقيدا، وتسوية ملفاتها الشائكة، بما يكفل الحق والإنصاف وجبر الضرر".

واقترح المجلس الاستشاري في توصية له الى الملك محمد السادس باحداث لجنة خاصة تسمى «هيئة الإنصاف والمصالحة»؛ تتكون من شخصيات مشهود لها بالكفاءة والنزاهة الفكرية والتشبع بمبادئ حقوق الإنسان وذلك "استكمالا للإنجازات والمكتسبات على طريق التسوية العادلة لملف الانتهاكات التي تحققت منذ العشرية الأخيرة في عهد المغفور له جلالة الملك الحسن الثاني رحمة لله عليه".

تم احداث هيئة الإنصاف والمصالحة  في السابع من يناير 2004. وعملت الهيئة بموجبِ تفويضٍ مدته سنتان (2004 حتى 2006)،  وقدمت في دجنبر  2005 تقريرها النهائي إلى الملك محمد السادس مع عرضٍ موجزٍ لنتائجها وتوصياتها المتعلقة بالانتهاكات التي وقعت بين عامي 1956 و1999.

وكانت جلسات الاستماع للضحايا أقوى لحظة في مسار المصالحة وطي صفحة الماضي, فقد شرعت هيئة الإنصاف والمصالحة في عقد جلسات الاستماع العمومية ابتداء من منتصف شهر دجنبر 2004 "ليقدم خلالها ضحايا سابقون شهادات شفوية عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي عرفها المغرب خلال الفترة الممتدة ما بين 1956 و1999 وذلك بشكل علني بحضور الهيئة ومنظمات حقوقية وجمعوية، وممثلي وسائل الإعلام الوطنية و الدولية وستنقل عبر وسائل الإعلام السمعية والبصرية”. وتمَّ عقد سبع جلسات استماع علنية في أنحاء البلاد. كما تم تمكين الشهود من الإدلاء بشهاداتهم باللغة التي يريدون (العربية الفصحى أو العربية العامية أو الأمازيغية أو الفرنسية أو الأسبانية).

كانت شهادات امتزج فيها الألم بالأمل , وانهمرت دموع الحاضرين والمشاهدين المتابعين لها على شاشات التلفزة العمومية. وتم الاستماع الى شهادات ضحايا أحداث الريف عام 1958 وأحداث منطقة غولمين عام 1973، والاحداث التي هزّت الدار البيضاء عام 1981.

وبالموازاة مع جلسات الاستماع الفردية نظمت جلسات موضوعاتية , ركزت على قضايا وثيقة الصلة بالانتهاكات التي عرفها المغرب في أبعادها القانونية والتاريخية والنفسية والسياسية، ودعي للمشاركة فيها شهود وفاعلون في مجال حقوق الإنسان.

قدمت هيئة الإنصاف والمصالحة عددًا من التوصيات إلى الدولة، بما في ذلك مجموعة متنوعة من الإصلاحات الحكومية, وإصلاح كل من قطاع الأمن والقضاء بما في ذلك إنشاء سلطة قضائية مستقلة. تعديل الدستور لضمان حقوق معينة لا سيما حقوق الإنسان., الإذن بالتعويضات: مالية ونفسية وطبية واجتماعية. التصديق على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بما في ذلك إلغاء عقوبة الإعدام. أن تتحمل الدولة المسؤولية عن الانتهاكات بما في ذلك الاختفاء والاحتجاز التعسفي والتعذيب والاستخدام المفرط للقوة . توصيات مفصلة في مجالات معينة: المساواة بين الجنسين والوساطة المجتمعية والحد من الفقر وتطبيع الوضع القانوني والتعليم المستمر والتطوير المهني وإعادة التأهيل الطبي والنفسي وإقامة النصب التذكاريّة وغيرها.

طي صفحة الماضي كان ارادة سياسية للدولة المغربية, وهو ما عبر عنه جلالة الملك في رسالته السامية بتاريخ 10 دجنبر 1999 بمناسبة الذكرى 51 لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بقوله "نجدد التزامنا بحقوق الإنسان وبقيم الحرية، ذلك أننا نؤمن إيمانا راسخا أن احترام حقوق الإنسان والالتزام بالمواثيق الدولية المكرسة لهذه الحقوق ليست ترفا أو موضة، بل ضرورة تفرضها مستلزمات البناء والتنمية »..

وفي رسالة بمناسبة الاحتفال بالذكرى ال 60 للإعلان العالمي لحقوق الإنسان تلاها  محمد معتصم مستشار صاحب الجلالة أمام جلسة خاصة عقدها المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان, أكد جلالته "التزام المغرب الثابت بالقيم والمبادئ النبيلة، التي كرستها هذه الوثيقة التاريخية، إذ شكلت مصدرا لمواثيق دولية وإقليمية، جعلت من حقوق الإنسان إرثا مشتركا للبشرية جمعاء، من أجل بناء عالم يسوده الإخاء والسلم، والعدل والكرامة والمساواة". كما اكد على جعل تخليد بلادنا لهذه الذكرى الستينية، "تعبيرا عن مواصلة السير قدما، على درب استكمال بناء دولة الحق والقانون والمؤسسات، غايتنا المثلى تمكين المغرب، دولة ومجتمعا، من مراكمة المزيد من المكتسبات، التي تؤهله للارتقاء بانتقاله الديمقراطي، إلى أعلى المستويات".

أصبحت الهيئة اليوم من التجارب المرجعية، التي تتطلع عدد من الدول والمنظمات لتقاسم مقوماتها والبناء على مخرجاتها، نجح المغرب في بلورة نموذج خاص، رائد وغير مسبوق في محيطنا الإقليمي، وفي قراءة ماض وتحويله لدينامية بناء المستقبل".