يَبدو أن حقوق المتقاضين أصبحت في خطر داهم بسبب تَحوُّل بعض اليوتيوبرز إلى قُضاة ومُحامين ومُدعين عامين، يُفرِّقون صُكوك البراءة، ويُنشؤون الحقوق ويَكشفونها، حسب قراءاتهم الذاتية الخالصة في أحسن الأحوال، ووِفق إملاءات "مول الشكارة والشناقة" في أسوء التخمينات.

وما من شك أيضا أن المراكز القانونية لأطراف الخُصومات العَقارية والمدنية سوف تتأثر باجتهادات اليوتيوبرز العَقيمة، التي تَستنبط أحكام البراءة المزعومة، من وثائق يُسرِّبها بعض المتقاضين بسوء نية، بهدف ازدراء المحكمة واستهجان باقي أطراف المنازعة القضائية.

فليس هناك أخطر من أن يَتحول اليوتيوبرز إلى قاض يُعَقِّب على القُضاة، وإلى مُستشار يُجرِّح في مُقرَّرات المستشارين، وهو في الأصل لا يُفرِّق بين آجال السقوط وآجال التقادم، ولا يُميِّز بين الشُفعة والشَفاعة، ولا يُقيم فواصل تنظيمية بين مَهام الدَرك على الطُرق العمومية، وبين مَهامهم عند تَسخير القوة العمومية لتنفيذ أوامر القَضاء.

فمن الخَطير حقا على حُقوق الناس أن يُفتي العامة في حُريات الناس ومُمتلكاتهم، ولسنا هنا بحاجة للتذكير بحديث الرُوَيبضة في آخر الزمان، لكننا بحاجة للتذكير بأن الحُكم بين الناس هو من اختصاص العدالة وليس اليوتيوبرز.

فليس كل من هَبَّ ودَبَّ يُمسك بناصية القانون، وليس كل مُتطفل هو مُلِم بتفاصيل الدعاوى القضائية، وليس كل من دَرس القانون في مُحادثات الواتساب يُمكنه أن يَستخلص جَوهر الالتزامات من المباني وليس المعاني.

فمن يَفشل في اجتياز مهنة المحاماة، ويَخرُج من مُباراتها المهنية صِفر اليدين، لا يُمكنه أن يَتحول إلى قاض يُبرئ مُتهمة، ويُنشئ الحقوق ويَكشفها، بسبب قِراءة سَطحية لمدونة الحقوق العينية، أو بسبب تبريرات مُنحازة قَدمها الطرف الخارج عن الخصومة!

فما يَقوم به بعض اليوتيوبرز مُؤَخرا هو انتحال لصفة يُنظمها القانون، وهو تَصرف غير قانوني في القانون! فليس من حق أحد، غير القضاء، التصريح ببراءة القاضية السابقة المعتقلة بسجن عكاشة بسبب إهانة رجال القضاء، وليس من صلاحية أحد، ولو كان ساقطا في مهنة المحاماة، أن يُعطي لوالدها الحق في عقار، حتى ولو كانت هناك عَطايا أو مَزايا أو مُجرد وُعود يُقدمها الطرف الخارج عن الخصومة.

ولعل المثير للاستغراب هو أن "عدالة" اليوتيوبرز، ليست كالعدالة المؤسساتية الرسمية، فهي ناجزة وسريعة ولا تحتاج لمقال الدعوى، ولا لمواجهات وأبحاث تَكميلية، ولا تَحتاج حتى للصِفة والمصلحة والأهلية والإذن بالتقاضي عند الاقتضاء!

بل إن عدالة اليوتيوب تَحكُم على المقعد، وليس فيها طُعون ولا آجال ولا دُفوع ولا مُذكرات! يَكفي فقط أن يُسرِّب من هو مُستفيد من الدعوى وثائق لليوتيوبرز المتعاقد معه، ويَشرَح له مَغانمه من القضية، ليَعمد اليوتيوبرز إلى الوفاء بالتزاماته المتمثلة في ازدراء المحكمة، واتهام باقي أطراف الخصومة بالتقاضي بسوء نية، وإسقاط الصِفة عنهم في الدعوى، مع "الزيادة في العلم من عنده" بسبب حَِماسة الخطاب.

إنها مَلامح عدالة اليوتيوبرز، التي تُشكل خطرا حقيقيا على حُقوق الناس ومُمتلكاتهم، لأنه بمُجرد حُصول اليوتيوبرز على مَصاريف الدعوى، فإنه يُسارع لارتداء جُبَّة القضاء، ويَشرَع في تَفصيل الحُكم وإنشاء الحقوق حسب الطلب.

فالعدالة ليست بالسُهولة التي يَتصوَّرها أصحاب فيديوهات انتحال مِهنة القضاء! والبَراءة لا تَتحقَّق بالتسريبات والوُعود بالعَطاء، وأجال الشُفعة قبل مُدونة الحقوق العينية لم تَكن مُقيَّدة بأجل، وهكذا دَواليك.

كما أنه ليست هناك مَحكمة في العالم تَقضي في ملف بدون تَوافر "الصِفة" لدى المتقاضي! فمن يقول ذلك إما جاهل أو مُغفل أو مُغرَّر به، خصوصا إذا كانت الدعوى قد استوفت جميع أطوار التقاضي ونَظرت فيها عدة محاكم على اختلاف مستوياتها.

فالمرجو من اليوتيوبرز أن يَبتعدوا عن البَت في حُقوق الناس ومُمتلكاتهم، والتصرف في مُوجبات المِلكية والالتزامات، ودَعوا القضاء يَحكُم بين الناس.

فهناك مَواضيع أخرى تَصلح للأدسنس، وهناك مِلفات تَقبَل المناقصة والمكايسة في مَواقع التواصل الاجتماعي.

أما المنازعات العقارية والخصومات المدنية والقضايا الجنائية... فهي من اختصاص القضاء الذي يَحكُم بما يَروج أمامه، وليس بما يَهمِس به الواشون في جُيوب ومَسامع اليوتيوبرز الذين يَتطاوَلون على القانون.