يتدافع الناس فوق سطح هذه الأرض، ويختلفون، ويتعارضون، ويناقشون بعضهم البعض حد الجدال والخلاف الكبير، فإذا جاء أجل أحدهم، وانقضت ساعته، قالوا «الله يرحم»، وكفى، وتركوه لخالقه الذي ذهب عنده، والتفتوا لبقية الأحياء المحيطين بهم يجدون فيهم السلوى وبقية مسببات العيش والحياة. 

هذه القاعدة تسري على كل أسوياء الروح والعقل والخلق، إلا لدى طائفة من الناس، هداها الله وأصلحها، لا يكفيها الموت ولوعته وحرقة الفراق لتصفية ما علق في ذهنها من حسابات مع من رحلوا، فتجدها تمتلك ما يكفي من الوقاحة والصفاقة وقلة الحياء وقلة الدين وقلة الخلق لكي تجادل من لم يعد قادرا على حديث أو كلام معها، أي الموتى، وتلك لعمري قمة الدناءة وسفح الأخلاق. 

وقد قرأت، مثلما قرأتم، ما كتبه شخص يقول عن نفسه إنه عالم دين، عن عزيزنا وفقيدنا الغالي، الصحافي النادر جمال براوي، بعد رحيله، فلم أجد، مثلما لم تجدوا، كلمات شافية للتعبير عن صدمتي من هذا الانحدار الأخلاقي الذي عهدناه في هذا الشخص منذ القديم، إذ يعتقد ــ لفرط جهله وجهالته وجاهليته ــ أنه يطبق فينا، نحن المسلمون العاديون، الآية الكريمة «أشداء على الكفار»، لأنه كفر الجمل بما حمل منذ قديم السنوات، وهو من الطائفة الحمقاء التي تقول عن مخالفيها إنهم «يحاربون الإسلام والمسلمين»، وهو من الجماعة التي تؤمن أن الله سبحانه وتعالى سيدخلنا الجنة أو النار، بعد استشارتهم واحدا واحدا والعياذ بالله، وهو أيضا من الذين لا يملكون شجاعة ولا رجولة، ولا الأعضاء النحاسية المتينة، التي تسمح لصاحبها أن يعبر عن مكنونه الداخلي الحقيقي، لذلك يجرأ هو وأمثاله من الجبناء على الأفراد العزل، وعلى الصحافيين والمثقفين والمفكرين، ولا يستطيعون النبس ببنت شفة واحدة تجاه الجهات النافذة القوية، رغم أن الكل يعرف ما يظنون بها، لكنه النفاق والجبن والتقية المفضوحة، يمنعهم من الحديث معها، ويقويهم على من كان وحده أو هكذا يعتقدون. 

عزيزنا جمال براوي، رحمه الله، أبدا لم يكن وحده، وأبدا لن يكون. 

هو كان دوما برفقة كتاب أو صحيفة أو مجلة، لذلك حباه الله بما حرم منه سلالة الحمقى من الحافظين غير الفاهمين هؤلاء. ثم هو كان ولازال بعد الرحيل، وسيظل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها محاطا بمن تتلمذوا على يده، وطالعوا مقالا أنيقا كتبه، أو شاهدوا مداخلة لاسعة ذكية له، أو منحتهم صدف الحياة الرائعة فرصة مجالسته حقا والاقتراب إليه ومنه ومعرفة المعدن الأصيل الطيب الذي يتحدر منه. 

مرة أخرى نقولها: الزمن كشاف، وحملة شعار الدين والأخلاق هؤلاء يرسبون المرة بعد الأخرى في الامتحان، وإني أتذكر من باب - معرفة الشيء بضده - أن صحافيا شابا أتاني بعد وفاة أبو النعيم رحمه الله لكي يسألني عن رأيي فيه، وذكرني ببعض مما قال غفر الله لنا وله عني، فأجبت الصحافي «ولدي، في هذا البلد، وفي إسلام هذا البلد، عندما يموت الواحد منا لا تجوز عليه إلا الرحمة، سير كتب لينا شي مقال أكثر إفادة من هذا الذي تنوي اقترافه الآن». 

لعله الفرق في نهاية المطاف، ورحم الله جمال وعوضنا عن فقدانه خيرا، ورحمنا جميعا أحياء أوكالأحياء، وأمواتا.