...وكلما ازداد صوت شعاراتنا والغناء، كلما ازداد مرور الآخرين إلى الفعل، وتطبيق الاستراتيجيات على أرض الواقع. 

وكلما صحنا نحن انتصارا لقائد أو زعيم نؤلهه ونقول «ها هو المخلص قد جاء»، كلما قطفوا رأسه، وتركوا لنا النعش لكي نسير وراءه في الجنازات المهيبة صادحين مرة أخرى بالأهازيج والأناشيد والمحفوظات وكل تراتيل الغناء. 

اللعبة أصبحت مقسمة ومقسومة هكذا: نحن نغني، وهم ينتصرون. 

لنقل إننا أصبحنا «الكورال» المرافق لهم، لكننا لا نردد وراء المطرب الرئيسي «يا ليل يا عين»، مترنحين طربا، ولكن نصرخ ملء الحناجر والأفواه وحبال الصوت المرخية بالشعارات حزنا وألما، وإقرارا دائما ويوميا بالانهزام. 

ترى الشارع هادرا يموج ويصرخ «نموت، نموت، ويحيا الوطن»، ثم تموت الأوطان، الواحد بعد الآخر، ويستبيحها الجميع بكل سهولة، ونبقى نحن أحياء، أو كالأحياء، نعيد صياغة شعارات جديدة، ونحفظها عن ظهر قلب، لكي يأتي الصوت واحدا، متشابها حد الملل والتقزز حين الأداء. 

نمنع النشاز من الدخول بيننا في تجارب الأداء الصوتية، فيما التفرقة قاتلة لنا، ومعششة بيننا، ونحميها في الواقع، وحين التوقف عن الإنشاد. 

ما الحل إذن؟ 

حل الفرقة الموسيقية، وإلغاء هذا الكورال الذي يجمعنا، وتجريم الأداء الصوتي، ومنعه على كل من لا يقرن الكلام بالفعل. 

الأجيال الجديدة ملت من هؤلاء الذين يتكلمون كثيرا، ولا يفعلون أي شيء، أو في الحقيقة لا يفعلون شيئا، وهي تريد الآن المرور إلى شيء آخر، مغاير، جديد. 

القادمون لن يرثوا هذا الصراع الغبي بكل الغباء الذي ينضح منه. 

سيختارون من بين ثناياه الأشياء القادرة على الدخول بهم إلى المستقبل بذكاء، وسيتركون المحنطين في أناشيدهم قابعين، ولن نستطيع أن نفرض عليهم أي شيء هم لا يريدونه. 

هم شجعان أكثر من الذين سبقوا، لذلك لن تبهرهم العبارات، ولن يرهبهم لا التخوين، ولا التكفير، ولا التحريض عليهم، ولا بقية الأسلحة الغبية التي استعملها السابقون في حق بعضهم البعض، وقضوا بها الوطر لأجل إبقاء الأشياء على حالها، ميتة، أو كالميتة لا تتزحزح. 

لذلك يمكن القول أن كل ما يقع الآن، وإن كان ثمنه غاليا جدا وكلفته من الدماء وضياع الأبرياء، فادحا، هو في نهاية المطاف ضروري. 

ضروري لماذا؟ 

لكي نتأكد مرة أخرى وأخيرة، وإن كنا نعرف الجواب مسبقا، من أصحاب الشعارات والأناشيد والكلام الكبير، ومن قدرتهم على فعل شيء ما حقيقي على أرض الواقع، نلمسه دون أن يضطروا لإقناعنا بالأكاذيب أنه موجود، مع أننا لا نراه. 

اليوم نحن في مرحلة فصل، وفي لحظة ستحسم المرور إلى المستقبل من البقاء أسرى الماضي، ورهائن قراءة وحيدة للسياسة في العالم العربي، قيل لنا منذ البدء إن أمامنا إزاءها اختيارا واحدا من اثنين: إما أن نقول «آمين»، حتى وإن لم نقتنع، وإلا فإننا (خونة). 

الأجيال الجديدة، ولأنها أكثر منا دراسة واطلاعا وانفتاحا وشجاعة، وهذه الأخيرة هي الأهم، ترفض هذا الاختيار القاتل، وتقول مبتسمة إن لديها خيارات أخرى كثيرة، لأنها لم تحكم على نفسها منذ البدء بألا ترى إلا بعين واحدة مثل الدجال الأعور. 

اتساع مجال الرؤية الذي لديها هذا، هو حظها الأكبر للإفلات من مصير من سبقوها: لكي لا تكون هي الأخرى مجرد مرددة في الكورال الصوتي الكئيب الذي يؤدي الأناشيد، بنفس الحماس الفاتر، وبنفس الفتور المتحمس، منذ عديد السنوات. 

ما أسعد أهل المستقبل بشجاعتهم، وقدرتهم على التغيير، وما أتعسنا، نحن كورال الأناشيد، بمصيرنا المحزن، خصوصا بعد أن ترهلنا وشخنا، وأصبحت حبالنا الصوتية صالحة فقط لنشر وصفات الدواء الكثيرة فوقها، في محاولة لمعالجة كثير الأمراض...

ما أسعد القادمين فعلا بالآتي.