في أسبوع واحد فقد الفن في فرنسا الممثل الكبير ميشيل بلان، وفقد الفن في المغرب القديرة المحترمة نعيمة المشرقي.

غيرت تلفزيونات فرنسا برمجتها، فور انتشار خبر رحيل ميشيل بلان، أحد أبرز عصابة les bronzés التي صنعت الفرجة السينمائية الضاحكة في فرنسا السبعينيات، فيما قرأت وسائل إعلامنا باستحياء خبر رحيل نعيمة المشرقي، والأكثر حماسا منا دبجوا بضعة أسطر تحدثت عن سيرتها، والسلام.

لماذا؟

لا أدري، ولا أريد أن أدري، ولا أريد أن أكتب أننا لازلنا غير قادرين على تقدير فنانينا المحليين - خصوصا الكبيرات والكبار منهم- وهم على قيد الحياة، وأيضا وهم أموات، رحم الله الجميع.

بالنسبة لنعيمتنا الوطنية، رحمها الله، هي لم تكن أيقونة، مثلما يكتب عبر الفيسبوك من لا يعرفونها جيدا. وهي لم تكن لا سيدة الشاشة، ولا سيدة الخشبة، ولا سيدة الركح ولا سيدة المذياع، ولا بقية الألقاب التي يطلقها في العادة أناس بعيدون عن هاته المجالات في أوقات فراغهم، ويتفرغون بعدها للفرجة على تداول الناس لها.

هي كانت «للا نعيمة المشرقي»، وكفى.

سيدة مغربية من أخمص قدميها حتى أعلى الرأس الذي ظل شامخا، مرتفعا، عاليا، حتى الختام.

كنت كلما التقيت بها في حدث ما، لا تحدثني عن فن أو تمثيل أو صحافة أو أي شيء من هذا القبيل العابر.

كانت تسألني عن الأهم حقا، وكانت تقول بهدوء لئلا يسمعها الفضوليين «لاباس آولدي؟ آش خبار أمك؟ شوية؟».

تطمئن، ثم تقول «الله يرضي عليك»، وتمضي.

سألني أحد زملائنا خلال افتتاح جلالة الملك لسوق نموذجي متميز لذوي الاحتياجات الخاصة في الدار البيضاء منذ سنوات، بعد أن التقط بعضا من حديث «للا نعيمة» معي: «منين كتعرف نعيمة المشرقي؟ واش كتجيك؟».

أجبته: «نعم، كتجيني وكتجي للمغاربة كاملين، كلنا نحسها أما لنا أو أختا كبيرة، أو قريبة من القريبات اللائي تثق فيهن الثقة العمياء، وتحكي لهن كل أسرارك، وأنت متأكد أنهن سيحفظنها».

على امتداد سنوات وعقود، أرست «للا نعيمة المشرقي» مع الجمهور المغربي علاقة قرابة فنية وإنسانية نادرة التحقق لفنانين وفنانات أخريات، واستطاعت أن تنسج مع الناس بابتسامة الطيبوبة الصادقة غير المنافقة، وبلكنة الحديث الموغلة في تمغربيت، وشائج حب واحترام كبيرين مع الناس.

ثم إن لهاته السيدة المسماة «للا نعيمة المشرقي» مع وطنها المغرب الحكايات العجيبة والروايات الأعجب، فهو كان لها محرك الأشياء، والدفاع عنه في وجه كل من يريد به شرا كان ديدنها الدائم، والتزامها التام. أما الثوابت الوطنية لديها فهي السبب الرئيسي للعيش، وهي كانت تقولها بافتخار، وكان يعرفها كل المقربين منها: العمل من أجل الوطن في مجال الفن جندية ومجهود نبيل وواجب ضروري وفرض عين على كل فنان وكل فنانة، يعترفان بفضل المغرب عليهما.

لذلك سيذكر الناس عنها كثيرا وسيتذكرون لها دوما شخصية «للا فقيهتي»، في برنامج «ألف لام»، نموذج اقتناع المغرب في بداية سنوات الألفين بأن المعركة ضد الأمية، هي معركة مصيرية وحيوية ورئيسية للانتقال بالبلاد والعباد من حال إلى حال.

ولذلك أيضا ستبقى نعيمة المشرقي بالنسبة للمغاربة فنانة عبرت التشخيص من كل وسائله وبكل قنواته، مسرحا ومذياعا وسينما وتلفزيونا، بتميز وإبداع وإتقان، لكنها ظلت مقتنعة أن العمل الجمعوي والاجتماعي لصالح بنات وأبناء بلدها يأتي دائما في المقام الأول، لأن تطوير البلد لن يكون ممكنا إذا لم يتطور أبناء هذا البلد.

رحم الله الأنيقة الهادئة، المغربية حتى النخاع، نعيمة المشرقي، ورزق عائلتيها، الصغيرة والكبيرة، أي كل المغاربة، الصبر الجميل، والقدرة دوما على تذكر عبورها الوازن قيمة وفنا وأخلاقا ووطنية من هاته الحياة الفانية.

«الله يرحم للا نعيمة، الله يرحم الناس».