رغم مرور 25 سنة على وفاته، إلا أن شخصية الملك الراحل الحسن الثاني لا تزال حاضرة في وجدان الكثير من المغاربة، بالقدر الذي كانت تثير مواقفه وتصريحاته الكثير من التحليل والمتابعة من قبل سياسيين ومحللين، سواء في حياته، أو حتى بعد مماته، ينقلون عنها الكثير من المواقف والتصريحات.

الكثير من خطب جلالة الملك لا تزال حتى الآن تحظى بالمتابعة، ليس فقط من قبل المتتبعين السياسيين والأكاديميين، بل حتى من عموم الشعب، الذي يتفاعل مع بعض المقاطع التي يتم تداولها بين الفينة والأخرى.

فكلما كان هناك حدث ما، تصبح مواقف الملك الراحل السياسية، محل متابعة كبيرة، بعضها ترى فيها حصافة وفهم عميق لمجموعة من القضايا، وأخرى تراها خطبا استشرافية لواقع قادم، تضفي عليها هالة من «القداسة» لرجل مثقف وسياسي حصيف، ومحاور مفوه.

الجميع يتذكر خطب الراحل الملك الحسن الثاني، والتي كانت تشكل مادة دسمة للتعليقات والتفاعلات في زمن لم تكن فيه وسائل التواصل حاضرة، كما هو الشأن الآن.. كان يصنع الحدث بكلماته الدالة، وجمله المنمقة وأسلوبه السلس، بالرغم من أن معظمها كان مرتجلا، وغير مكتوب.

يذكر الجميع كيف كان الراحل يجعل من خطبه حدثا في حد ذاتها، وينجح في وضع هالة من الاهتمام الإعلامي بكلماته وأيضا بما يرسمه من إشارات تستشف من ثنايا هذه العبارات، وهو ما جعل الأنتربولوجي المغربي الفقيه عبد الباقي يصف في أحد حواراته بأن الحسن الثاني جسد عاد إلى التراب، بينما استمر آخر عبر الزمن.

وحاول الفقيه عبد الباقي تفسير سبب الاهتمام المتزايد بتفاصيل حياة الراحل الحسن الثاني، بقوله أن الناس يريدون اكتشاف أسراره، لأن الأمر يتعلق بسلطان وسياسة وفترة مهمة من تاريخ المغرب، وأن جسد الملك الحاضر لدى الناس هو الجسد الرمزي، الذي يمكن أن يستمر بفعل الكتابة أو ممارسة العنف أو عدد من الأمور التي تمتد آثارها.

وضمن هذه الرمزية التي تحبل بها شخصية الراحل الحسن الثاني، حاولت الكثير من الكتابات أن تقترب من بعض جوانبها ضمن مسار حياة الملك الذي حكم المغرب، لحوالي أربعة عقود من الزمن، مثل الأمريكي روم لاندو، الذي تناول كثيرا فترة حكمه واهتم بالحديث عنه.

وبرر الأكاديمي الأمريكي في أحد تصريحاته سبب اهتمامه بالكتابة عن حياة الراحل الحسن الثاني، بقوله أن هناك من الأسباب المجدية ما يوجب عمل ذلك، لأنه عاش حياة مثيرة للاهتمام إلى حد كبير، فقد كان رمزا لإفريقيا الصاعدة حتى قبل أن يخلف والده محمد الخامس في 26 فبراير 1961 «إذ بينما كان لا يزال شابا كان أقرب مساعد لوالده، وكان في طليعة جبهة النضال المغربية من أجل الاستقلال، فهذا النضال العنيف الذي توج بنجاح باهر.. حفز كل مملكات فرنسا الأخرى... وهكذا فإن أدوار الملك الحسن الثاني ووالده خطيرة».

كما وصف روم لاندو الحسن الثاني بأنه من أشد المؤمنين بتبني نموذج الديمقراطية الغربية.. «غير أنه لم يتفق مع مفاهيم بعض المعارضين اليساريين، ومن كان يدور في فلكهم من اتحادات العمال والطلاب، وقد كان الملك قد وطد علاقات صحيحة عندما كان أميرا، مع قادة يساريين كعبد الرحيم بوعبيد والمهدي بن بركة.. غير أن الوهن قد تسرب إلى هذه العلاقات بعد إقالة حكومة عبد الله إبراهيم».

ويواصل الكاتب الأمريكي تحليله لشخصية الملك الراحل، بقوله أن بعض خصومه السياسيين كانوا يرون أن حل جميع مشاكل البلاد يكمن في إقامة نظام اشتراكي على الطريقة الصينية... «غير أن شعبية الحسن الثاني السريعة... فاجأتهم فاندفع هؤلاء إلى معارضة شديدة... غير أن الأعضاء الأقل تطرفا اعتقدوا بإمكان ظهور الوطنية... وأن الطريق ستفتح أمام الملك ليستفيد من خدمات القادة اليساريين».

وبعيدا عن الخلافات السياسية التي عاشها المغرب في مرحلة سابقة في حكم عهد الملك الراحل، خاصة مع اليسار، والتي لا يمكن بأي حال من الأحوال عزلها عن سياق عالمي كان فيه المد الشيوعي مسيطرا، وأيضا في سياق كان يعرف ثنائية القطبية العالمية، إلا أن الملك الراحل رسم لنفسه نمطا خاصا، حظي بالكثير من الاحترام والتقدير، حتى من قبل خصومه السياسيين.

وضمن هذا المسار، يذكر المغاربة كيف أدار الراحل بذكاء ملف الصحراء المغربية، في فترة كانت شعارات الحرية وتقرير مصير الشعوب تشعل العالم، بفعل انتشار المد اليساري، ونشاط المنظمات الحاملة لمشعل هذه الشعارات، في زمن كانت العديد من الدول تخرج من عباءة الاستعمار.

كانت المسيرة الخضراء واحدة من هذه المفاجآت التي خلقتها شخصية الملك الراحل، في زمن لم يعرف لها مثيلا من قبل.. كانت فكرة رائدة فاجأت المستعمر السابق، كما فاجأت الأعداء، وخلطت الأوراق في أفق حل ملف كان يراهن عليه لتقزيم دور المغرب.

في فترة من الوقت كان الإعلان، وفي وقت آخر كان التنفيذ، ونجحت الخطة في تحقيق أهدافها، ضدا على رهان الجيران والمستعمر.. وحقق الراحل ضربة معلم، لم يستفق منها هؤلاء إلا بعد أن أصبح الأمر الواقع على الأرض، وبنفس العبقرية كان التنفيذ الذي جعل 350 ألف مغربي يعبرون نحو الجنوب، لربط أقاليم المملكة بالأراضي المستعمرة.

حقق الراحل حلم المملكة، وبدأت مرحلة أخرى من تدبير ملف الصحراء، عبر مواجهة مناورات الخصوم، ونجح في لجم خطر الانفصال الذي كانت جزائر بومدين وليبيا القذافي ومن ورائهما العديد من القوى العالمية المؤيدة لهما، لتثبيت حقوق المغرب المشروعة في ظل الإنفاق الكبير الذي كانت هاتان الدولتان تضعانه في خزائن الدول لشراء ذممها، ودفعها لتبني أطروحتهما.

وبالرغم من السياق العالمي المساند، نجح الراحل بالعبور بقضية الصحراء من نفقها المظلم آنذاك، كما نجح في كسر كل محاولات نظام الجزائر في إفشال مخطط المملكة لتوحيد أراضيها، كما نجح في اختراق قلعة هذا الكره الجزائري للمغرب، سواء في فترة حكم بن جديد حين تم عقد مؤتمر مراكش، حيث تم تأسيس اتحاد المغرب العربي الكبير، أو في الدفع بانتخاب الراحل بوضياف، كرئيس للجزائر، قبل أن يتعرض للاغتيال.

ورغم عبقرية الراحل في تسجيل هذه الاختراقات لملف النزاع المغربي الجزائري، إلا أن السياق العالمي لم يكن يسمح آنذاك بأن ينهي المغرب ملف نزاعه بالشكل المتوخى، ليظل النزاع المفتعل قائما، لكن وفق شروط المملكة التي لخصها العاهل الراحل في أحد خطبه بمقولته الشهيرة «الصحراء في مغربها والمغرب في صحرائه»، كإعلان من المغرب برفض كل محاولة لحل هذا النزاع خارج السيادة المغربية.

تنتهي فترة حكم الراحل الحسن الثاني، لكن شخصيته تظل حاضرة، وهو ما سبق أن أعلنه الصحافي الراحل أحمد الزايدي في أحد حواراته، بالقول أن الملك الراحل الحسن الثاني لم يكن رجلا عاديا حتى يكون مروره عاديا.. «قد رأيتم كيف أن جنازته جذبت كبار الشخصيات العالمية، فالرجل كانت له مكانة خاصة، ولا عجب أن يكون في الحديث عنه طعم خاص.. كان رجل سياسة بامتياز ورجلا مثقفا، إذ كان يقرأ كثيرا وشغوفا بالعلم والعلماء، وطبع حقبته بأحداث كبرى ربما قل نظيرها في القرن الذي ودعناه».

هكذا عاش الراحل الحسن الثاني، وهكذا ظلت سيرته حاضرة، وربما لا يزال العديد من الشباب الذين لم يعايشوا فترة حكمه يذكرون العديد من تصريحاته، لكن يظل أبرزها، والذي يتم تداوله كثيرا على مواقع التواصل الاجتماعي، ويتم تقديمه باعتباره نبوءة تحققت على أرض الواقع حين قال: «إن مغربية الصحراء شيء لا جدال فيه، ولكن كنا ننتظر.. أن يعرف الناس مع من حشرنا الله في الجوار.. كنا نريد أن يعرف الناس النوايا الحقيقية لمن هم يساكنوننا ويجاوروننا، ولله الحمد سبحانه وتعالى أن انكشف الغطاء».