جاء الخطاب الملكي أمام البرلمان ليؤكد المؤكد، ويرسم ملامح المرحلة القادمة في التعاطي مع ملف الصحراء المغربية، والتي يتلخص عنوانها الأبرز في الانتقال من مرحلة التدبير إلى مرحلة التغيير، كإعلان عن قرب وضع نقطة النهاية لملف عمر لحوالي نصف قرن من الزمن، دبرها المغرب بتدابير تأقلمت مع أوضاع عالمية مختلفة.

نصف قرن من الزمن انتقلت فيه المملكة لتدبير ملف الصحراء، من عدة مستويات، تشابك فيها البعد العسكري، مع البعدين السياسي والديبلوماسي، في مرحلة معينة، قبل الانتقال لمستوى اقتصادي واجتماعي، ضمن صيرورة أثبت الزمن وجاهتها، للوصول لمرحلة جني الثمار، والتي توجت هذا المسار، والذي وصفه جلالة الملك في بعده الدولي بالصعب والمعقد.

وبالنظر للوضع الحالي لمسار ملف الصحراء المغربية، يتأكد بالملموس أن الرهان الذي أسسه جلالة الملك لتدبيره كان ناجحا، حيث تبنى مقاربة ديبلوماسية ذكية، لم تعتمد فقط على المشروعية المغربية التاريخية في تحرير أراضيه، بل تعداها لمستوى التخطيط المبني على المصلحة الإقليمية والدولية في خلق منطقة آمنة، ومحطة اقتصادية وتنموية، يتعدى مداها الدول القريبة، ليصل إشعاعها لعمق إفريقيا، وهو المسار الذي آمن به الجميع، بعد أن كان جلالة الملك يضع لبناته منذ اعتلائه العرش، دون أن تلتقط هذه الإشارات منذ البداية.

وهذا المسار الجديد الذي أصبح الجميع مقتنعا به في النهاية، أكده جلالة الملك في خطابه الأخير حين أشار إلى أن المملكة أطلقت دينامية شاملة تهم التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، بما يجعل من الصحراء محورا للتواصل والتبادل بين المغرب وعمقه الإفريقي، وما يسمح للدول الصديقة بمواكبة هذا المسار والاستفادة منه اقتصاديا واستثماريا.

وبالطبع لم يكن هذا المخطط مجرد نوايا، بل تم تأسيس عناصره التي بدت في مرحلة ما أنها مجرد خطوات معزولة، لكن تأسيسها مع الوقت كشف بعد نظر جلالته، وهو ما أكده الخطاب حين قال جلالته إن الملامح المستقبلية لمنطقة الصحراء ترتبط بالمسار التنموي الراهن، الذي يضعها في صلب المبادرات القارية الاستراتيجية، وخص بالذكر كمشروع أنبوب الغاز المغرب - نيجيريا، ومبادرة الدول الإفريقية الأطلسية، إضافة إلى مبادرة تمكين دول الساحل من الولوج إلى المحيط الأطلسي.

ويتأكد نجاح هذا المسار في الخلاصة التي أصبحت ماثلة للعيان، والتي جعلت «معهد السلام» (المؤسس من لدن الكونغرس الأمريكي والتابع له) يؤكد في آخر منشوراته التحليلية أن «قضية الصحراء قد انتهت وتم حسمها لصالح المغرب»، وذلك في تفاعله مع مستجدات هذا النزاع الإقليمي المفتعل الذي تصر الجارة الشرقية للمملكة على تأبيده وإطالة أمده، عبر محاولة إعادة تشغيل أسطوانة مشروخة ظاهرها «تقرير المصير وباطنها الانفصال».

ووفقا للتقرير الذي تم إعداده من قبل مدير برامج شمال إفريقيا بالمعهد، توماس هيل، والذي صدر في غشت الماضي، فإن الخطوة الفرنسية، إلى جانب التفوق العسكري المغربي، عززت من السيطرة المغربية على الصحراء، مما يدفع المجتمع الدولي نحو قبول هذا الواقع الجديد، وهو أيضا ما يتقاطع مع ما تضمنه الخطاب الملكي، حيث قال جلالته إن المغرب قطع منذ ما يقارب ربع قرن مع منطق «رد الفعل» لينتقل إلى التعامل مع الملف وفق منطق «المبادرة والاستباقية»، وبإصرار على مواقفه الحازمة، بما يظهر، بكل الوسائل المتاحة «حقوق المغرب التاريخية والمشروعة في الصحراء».

وبالعودة للتقرير الأمريكي، فإن استمرار جبهة البوليساريو والجزائر في إنكار الواقع الجديد لن يؤدي إلا إلى مزيد من العزلة والخسارة، حيث أشار إلى أن الاعتراف بالسيادة المغربية والتفاوض على شروط تضمن مصالح «الشعب الصحراوي» هو الطريق الأكثر واقعية وعقلانية لإنهاء هذا النزاع الطويل، وهي نتيجة وصل لها المغرب، كثمرة لعمل طويل ممزوج بـ«الصبر والتأني»، وفق ما جاء في الخطاب، أفضى إلى مراكمة الاعترافات بالسيادة المغربية على الصحراء، وعم مقترح الحكم الذاتي للمنطقة تحت سيادة المملكة.

ويرى التقرير الأمريكي أن التحول الدولي يلزم جبهة البوليساريو بإعادة النظر في موقفها والقبول بشكل من أشكال الحكم الذاتي داخل المغرب، وهو الخيار الذي بات الأنسب لها وللجزائر، داعمتها الرئيسية، داعيا البوليساريو والجزائر إلى اغتنام هذه الفرصة للتفاوض على أفضل شروط السلام الممكنة، قبل أن يصبح الوضع الراهن دائما، موضحا أن الزخم الدولي الآن يصب في صالح المغرب، حيث إن المزيد من الدول تنضم إلى ركب الاعتراف بسيادته على الصحراء، خاصة مع اعتراف دولة مؤثرة ومطلعة على الملف بالمخطط المغربي.

وفي هذا السياق، أشار جلالة الملك إلى فرنسا باعتبارها «تعرف جيدا حقيقة وخلفيات هذا النزاع الإقليمي»، انطلاقا من أنها، بحكم موقعها الدولي، مطلعة بعمق على حيثيات القضية تاريخيا وقانونيا، لذلك، فإن موقفها، المتضمن الالتزام بالتصرف وفق اعترافها بالسيادة المغربية على الأقاليم الجنوبية سيكون له دور محوري في تغيير قواعد اللعبة.

كما أشار جلالة الملك إلى مواقف الدول التي تبنت مواقف داعمة بشكل صريح لمقترح الحكم الذاتي المغربي في الصحراء، وتوقف عند موقف إسبانيا، المحتل السابق للمنطقة، باعتبار أنه يحمل «دلالات سياسية وتاريخية عميقة»، مشيرا أيضا إلى دول الاتحاد الأوروبي، حيث نجد الآن 19 دولة من أصل 28 لديها موقف إيجابي صريح من مغربية الصحراء.

وبالعودة للتقرير الأمريكي، نجده قد ركز على الاعتراف الفرنسي الذي يضاف إلى سلسلة من التحولات في الموقف الدولي تجاه النزاع في الصحراء المغربية، التي بدأت مع إعلان الولايات المتحدة في عام 2020 اعترافها بالسيادة المغربية على الإقليم، حيث يصفها بالفاعل الأجنبي الأكثر نفوذا في منطقة المغرب العربي، والتي تلعب دورا محوريا في هذا التحول الدولي. ومن الواضح أن فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة في المنطقة ترى مستقبلها الاقتصادي مرتبطا بالمغرب، وليس بالجزائر، وهذا ما دفعها إلى إنهاء موقفها الحيادي تجاه النزاع، وفق التقرير ذاته.

وبعد المعهد الأمريكي الذي أكد أن ملف الصحراء المغربية وصل إلى نهايته، جاء الدور على آخر معقل داعم للنظام العسكري، ليؤكد بدوره أن الجبهة الانفصالية، ومن خلفها دولة الكابرانات، باتوا أقرب لرفع الراية البيضاء أمام تزايد الدعم الدولي لمقترح الحكم الذاتي.

وأوضح معهد الدراسات الأمنية الذي يوجد مقره الرئيسي في جنوب إفريقيا أن الجبهة الانفصالية أصبحت تخسر معركتها بشكل تدريجي، بينما يحوز المغرب على دعم متنامي ومطرد لمقترح الحكم الذاتي، مسجلا تراجع الدعم الإفريقي للبوليساريو، بعد أن سحبت عدة دول في السنوات الأخيرة، كانت داعمة للجبهة الانفصالية، اعترافها بالبوليساريو أو جمدته، مقابل تزايد الدعم للمقترح المغربي.

كما كشف التقرير أن بعض المسؤولين في جنوب إفريقيا بدؤوا يفقدون الحماس بشأن استمرار دعم البوليساريو، وذلك أمام تسجيل تآكل الدعم الإفريقي والدولي للبوليساريو، في إشارة ضمنية تحيل ربما على تحول قريب في استمرار دعم جنوب إفريقيا للأطروحة الجزائرية، بعد أن أصبحت شبه وحيدة في مواجهة جيش المناوئين للجبهة الانفصالية، وهذا ما يحتاج وفق خطاب جلالة الملك ضرورة التحلي بالواقعية وعدم الارتكان لما تم تحقيقه، باعتبار أن «المرحلة المقبلة تتطلب من الجميع المزيد من التعبئة واليقظة، لمواصلة تعزيز موقف بلادنا، والتعريف بعدالة قضيتنا، والتصدي لمناورات الخصوم».

وفي الختام شدد جلالة الملك على ضرورة الاستمرار في العمل من أجل إقناع باقي الدول القليلة التي «ما زالت تسير ضد منطق الحق والتاريخ»، وذلك بالحجج والأدلة القانونية والسياسية والتاريخية والروحية، التي تؤكد شرعية مغربية الصحراء، وهو عمل لا يقع على عاتق الدبلوماسية المغربية فقط، بل «يقتضي تضافر جهود كل المؤسسات والهيآت الوطنية، الرسمية والحزبية والمدنية، وتعزيز التنسيق بينها، بما يضفي النجاعة اللازمة على أدائها وتحركاتها»، الأمر الذي يضع البرلمانيين في واجهة تلك الجهود، في أفق وضع نهاية لملف عمر لنصف قرن من الزمن.