في زمن تنهار فيه الحدود المائزة بين المبدأ والخديعة، وتختلط فيه المواقف النضالية الحقة بالصراخ المزيف والدجل العقائدي، يخرج علينا من تحت عباءة الدين تجار الكلام ومُدّعو الغيرة على القضايا العادلة، وعلى رأسها فلسطين الجريحة، ليحولوها إلى سلعة في مزاد النفاق، وأداة في يد التخريب المنظَّم، يرفعون شعار "القدس قضيتنا" وهم أول من يبيعون القيم في أسواق العمالة والانتهازية.
إن ما يمارسه هذا التيار الإسلاموي المتاجر بفلسطين لا يمت بأي صلة إلى النضال ولا التضامن، بل هو شكل من أشكال السطو الوقح على دماء الشهداء المهدورة وذاكرة الشعوب المنخورة.
فلسطين، التي كانت وستبقى بوصلة الأحرار في العالم، تحوّلت في خطاب هؤلاء إلى مطية للتشكيك في الأوطان، إلى لافتة للتهجم على المؤسسات، وإلى ذريعة للهجوم على المصالح الوطنية، وإلى أداة لتسويق مشروع تخريبي خفي يُعادي الدولة من الداخل. هذا التيار لا يدافع عن فلسطين بقدر ما يستعملها كقناع يُخفي خلفه عداءه الصريح للدولة الوطنية الحديثة، وكراهيته العميقة لقيم العقل والمؤسسات والديمقراطية، لأنه تيار لا ينتقي من فلسطين إلا ما يخدم مخططاته الظلامية التي تبتلع الوعي وتزرع العدمية وتنشر الشك في كل مكتسب وطني.
تحت قناع "التضامن" ككل مرة، يشرعن الإسلامويون أفعالًا تنتمي إلى منطق التخريب المقنّع، مشككين في السيادة الوطنية، محاولين ضرب الاقتصاد الوطني في مقتل، محرضين على الفوضى، وصانعين من منابرهم الصدئة مراكز تعبئة ضد مؤسسات الدولة. إنهم لا يرون في فلسطين قضية إنسانية أو وطنية أو حتى دينية بالمعنى النبيل، بل يرون فيها فرصة لبعث الفتنة وتفجير التماسك الوطني وتوسيع دائرة الفوضى التي يعيشون عليها. فكلما استقرت الأوطان شعروا بالاختناق وكلما زاد منسوب الوعي شعروا بالتهديد، وكلما بُنيت مؤسسات قوية بحثوا عن عناوين جديدة لتخريبها. وهاهم اليوم يعلقون كل شيء على شماعة فلسطين لا حبًا فيها، بل خدمة لأجنداتهم في خدمة التنظيم العالمي للطوفان.
لا حرج عند القوم في مقايضة الوطن بالوهم وفي بيع فلسطين في صفقات المزايدة العاطفية، والاستثمار في الدم الفلسطيني كما يستثمرون في فقر الناس وجهلهم وبؤسهم ومآسيهم كعادتهم. إنهم ليسوا حلفاء للقضية بل طعنة غادرة في ظهرها. فهل يعقل أن يدافع عن الحرية من يعاديها في بلده؟ وهل يمكن أن يناصر حقوق الإنسان من يُنظّر للحكم بالبيعة للتنظيم العالمي للإخوان والولاء الأعمى لهم؟ إن من لا يستطيع أن يكون حرًا في وطنه لا يمكنه أبدًا أن يكون صادقًا في دعمه لقضية شعب مظلوم، لأنهم في عمق خطابهم لا يرون في فلسطين سوى وسيلة لتمرير مشروعهم السياسي القائم على الاستبداد المقنّع بثوب الدين.
حين يتحدثون عن فلسطين، فإنهم يتحدثون من موقع الحقد على أوطانهم بدل موقع التضامن. يهاجمون المصالح الاقتصادية الوطنية بدعوى "مقاطعة الصهاينة"، ويشوشون على العلاقات الاستراتيجية للدولة بدعوى "المبدئية"، لكن حقيقتهم عارية: يريدون الإساءة لسردية الدولة المحكمة البناء والقوام، لا تحرير فلسطين. إنهم بكل صراحة يستهدفون الاقتصاد المغربي لا الاحتلال.
شييطنة لكل مشروع وطني، واستثمار في لحظات الغضب من أجل تصفية الحسابات مع التاريخ والحداثة والعقل، ومن أجل فرملة كل عجلات الانتقال الديموقراطي والاقتصادي والثقافي.
هؤلاء هم أول من تخلوا عن فلسطين حين كانت الدماء تسيل فعلًا، وهم أول من طبعوا في السر مع تل أبيب تحت مسميات "التنسيق" و"الوساطة"، وأيقونتهم حماس تم تأسيسها أصلا للضرب في حركة فتح ومنظمة التحرير، فهم أول من استخدم القضية لتصفية خصومهم ولضرب النخب، وللتسلل إلى مفاصل السلطة الفلسطينية. لا تعنيهم فلسطين كأرض أو شعب، بل تعنيهم كرمز يمكن تسخيره لإعادة إنتاج حلمهم السياسي بقيادة الشعوب الذي لفظه التاريخ مرارًا.
إننا، بصريح القول واضحون في مواجهة هذا الانحراف. لا نملك إلا أن نعيد الاعتبار للتحليل العقلاني إلى الموقف الوطني الصلب، وللفكر الواضح غير القابل للاختراق بالشعارات الزائفة. إن التضامن الحقيقي مع فلسطين يبدأ من حماية الوطن من هذا العبث، ومن تحصين المصالح الوطنية ضد حملة التشويش، من دعم السيادة الاقتصادية ومواجهة كل من يهددها، حتى وإن كان يرتدي عباءة الدين. لأن من لا يعرف معنى الوطن، لا يمكنه أن يعرف معنى التضامن. ومن يكره الوطن لا يمكنه أن يحب فلسطين. ومن ولاؤه للجماعة أو التنظيم لا يمكن أن يكون وفيا مؤمنا متشبعا بقيم الوطن والأمة المغربية.
إن اللحظة تقتضي فضح هذا التيار بكل مكاشفة وقسوة ووضوح، لأنه ليس فقط خصمًا للمشروع الديمقراطي، بل خصمٌ لفلسطين ذاتها. فلسطين لا تحتاج إلى منابر التكفير، بل إلى منابر التنوير، لا تحتاج إلى تجار الدين، بل إلى دعم رجالات الدول، كما أنها لا تحتاج إلى من يتباكى على دماء الشهداء وهو يطعن الوطن، بل إلى من يحمي السيادة ويحفظ الكرامة ويصنع التاريخ. هؤلاء ليسوا حلفاء القضية، بل أعداؤها في ثياب النصح. لا يفهمون أن الخيانة الكبرى لفلسطين هي أن نتركها في أيديهم وأن نترك التضامن كرسم تجاري يبتزّون به الوطن والشعب المغربي متى يشاؤون.
إن من يجرؤ على عرقلة مرفق سيادي كالميناء، بدعوى التضامن مع فلسطين، لا يختلف في جوهر فعله عمّن يشعل النيران في المحاصيل الزراعية بدعوى مقاومة الجوع، أو من يهاجم رجال الأمن لفتح أبواب السجون بدعوى الحرية، أو من يمنع الأطباء من الانتشار في مرافق مستشفى جامعي احتجاجا على تدهور مزعوم في الخدمة الصحية. فالمرفق السيادي ليس مجرد بناية أو ممر لوجستي، بل هو تجسيد مادي لفكرة الدولة ولشبكات سيادتها في الفضاء العام والاقتصاد الوطني. تعطيله أو تهديد سلامته، أو تشويهه أمام الرأي العام الدولي، هو فعل عدائي مكتمل الأركان ضد الوطن، حتى وإن تزيّن برايات فلسطين. من يحتج ليُعطّل شريانًا سيادياً كمن يسعى لكسر العمود الفقري للدولة في لحظة حرجة.
وحيث إن الدولة تستوعب جيدا أن سيادتها لا تمارَس عبر البلاغات الرسمية في مثل هذه الظروف، بل تُصان في الموانئ والمطارات والمرافق الحيوية، حيث تختبر الدول قدرتها على ضبط الإيقاع بين التعاطف الخارجي والاستقرار الداخلي، فإنها لن تدخر جهدا في تقليم أظافر كل عابث وعابثة. ليفهم الجميع أن التضامن لا يكون بتفكيك أوصال الوطن، ولكن بتقويتها ليبقى قادرًا على الدعم بالفعل لا بالجعجعة التي ليس معها طحين.
وسيظل راسخا في أذهان شرفاء هذا الوطن وشريفاته أن قراصنة القضية لم يتورعوا حتى عن سفك الدم المغربي باسم فلسطين، إذ سالت الدماء من وجه ضابط في القوات العمومية تحت وابل من العنف الممنهج، وتعرض عناصر الأمن إلى تحرش نفسي واستفزاز جسدي ولفظي مهين، بهدف جرّهم إلى رد فعل يُستثمر إعلاميًا كدليل قمع. لكن ما لم يكن في حسبانهم أن المؤسسة الأمنية المغربية أسمى من أن تُستدرج إلى مستنقع الردع الغريزي، فقد قابلت تلك البذاءة برباطة جأش لافتة، وانضباطٍ يليق بدولة تحمي أمنها بوعي لا بانفعال. وحدهم خونة الوطن يعتقدون أن تعنيف من يحميه يُعدّ مقاومة وأن تخريب بيتنا الكبير إعمار لدمار صنعه فرط من "الحماس" ذات سابع أكتوبر